الرسالة الثالثة
يا مسكين اما زلت تنتظر الفرج, فأن لم يحصل فهذا يعني ان رسالتك لم تصلك, فالرسائل لا تقراء بالعيون بل بالقلوب المكسورة لخالقها لانها لا تعلم ماذا سيفعل بها, فاسال من خرجوا من الدنيا ماذا حملوا معهم غير اعمالهم, فقد هلك عنهم سلطانهم, وما اغنى عنهم مالهم وانت ما زلت تقف على الابواب تشتكي الفقر وتقول انك مسلم, فهل قطعت عهدا او نذرت نذرا ان يكون مال الله لله, فتكون خير من يتفقد عباده ولا ينسى من الفضل احبابه, اما علمت ان لله احباب لو اكرمتهم اكرمك وان قطعتهم قطعك ولم تغن عنه شيئا, اما علمت قوله اذا رأيت مبتلى بعاهة ان تقول (الحمدلله الذي عافانا مما ابتلاك به وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلا).
فهل علمت من الذي ابتلاهم وما الحكمة في ذلك, انه هو الذي بيده ان يبتليك ويبتليني وكل خلقه اجمعين ولكنه فضلك لعلمه فهل كنت بقدر هذا التفضيل, فهل تعلم ان من اسباب ابتلائهم انه اراد ان يختبرنا كيف سنعاملهم فهم احبابه الذين افاقوا على هذا الابتلاء ورضوا به وانتظروا منا ان نقوم على رعايتهم فلا نشعرهم بضعفهم وعجزهم ولا نشتكي طلبهم لنا واحتياجهم, الا تعلم انا سنسأل عنهم يوم نلاقي ربنا, اما علمت ان باكرامهم ياتي الفرج, اما علمت ان اسباب الرزق جائت في هذا الحديث: (لولا شيوخ ركع واطفال رضع وبهائم رتع لما انزل الغيث علينا), فهل افقت يا من تشتكي الفقر على نعمة الصحة التي انت فيها ام ما زلت تبحر في عميق بحر جهلك كمركب بلا جهة ولا ربان, فليكن ربك ربانك والقرآن دليلك وبرهانك ومحمد عليه الصلاة والسلام نبيك ورسولك ومعلمك, واقراء الدروس والعبر في كل عمل وأثر, ولا تدع الاشياء تمر من امام حياتك بلا تدبر ولا تفكر, واقراء رسالة الله العزيز الوهاب في الشر كما هي في الخير ففي كل رسالة علم وخبر, ففي كل ابتلاء رسالة وكل شئ عنده بحكمة وقدر, وكما جعل في كل حلال منفعة ايضا جعل في كل حرام شرا وضرر, فمن جاء بالحلال لم ينتظر طويلا على الابواب وفهم رسالات ربه باسرع ما يكون المسلم الكيس الفطن الحذر, ومن طال وقوفه على الابواب فما عرف طريق الحلال او ربما قد خالطه بشئ من الحرام فلينتظر, ومن رضي بالانتظار فليتسلح بالصبر.
قد يطول انتظارك ولكنك ستصل يوم تكره نفسك الحرام كما تكره الميتة ورائحتها, وتكون وقتها قد تلقيت اول رسائلك ووصلت حيث مفادها, فتكون خير ثروة لك وحينها فقط سترى الحياة بعين الحق فلا تقبل باقل من الحلال, فالمؤمن نفسه عفيفة لا تقبل على المعصية كما تقبل الحيوانات المسعورة على الجيفة, بل يسال الله ان يكفيه بحلاله عن حرامه فلا يحتاج معها ليغلق نوافذه ولا العيش متخفيا كاللص يخاف الناس ويستحي منهم ولا يستحي من الله واين المفر.
يا مسكين الا تعلم ان كره المعاصي من صفات المؤمنين وتقول انك مؤمن, فأي مؤمن انت ولا تعرف شيئا عن حديث النفس, فالمؤمن له رادع يردعه وحين تعرض عليه المعصية يدور صراع كبير بداخله, اقطابه الخير والشر فيسمع حديثا في نفسه بين الحق والباطل ويكون الخوف من الله هو رادعه, وانت ان عرضت عليك المعصية هل هناك اعظم من ان يكون الله عونك فيعصمك ويكتبها لك حسنة بعد ان كانت سيئة, فأعظم الله في نفسك.
يا مسكين تتكلم كثيرا عن البحر وانت لا تجيد السباحة وتقول انك تعرف ما يوجد على الضفة الاخرى من البحر, وتصفه للناس من بطون الكتب ولم تتعلم السباحة بعد ولم تجهز مركبك فكيف ستعبره هل بالاحلام ام بالتفكير والنظر, وتقول لهم ان شاطئ الضفة الاخرى ليس فيه برد ولا حر, ولا موت ولا حزن وتردد للناس قوله ان فيها مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, اتصف لهم جنة الخلد فكيف ينالها من اضاع الليل سهرا وسمر ونام قبل صلاة الفجر واشرقت شمسه فاضاع صلاة الضحى بدخول صلاة الظهر, وتقول انك تعرف البحر يا مسكين وانت لم تذكر لهم مرة واحدة حر سقر.
اكتب بها ما ساتطعت, واكتب لمن يعرف قدرها ان استطعت, وافتح بها تفتح لك ابوابا على غير اهلها اقفلت, فان ابصرت ما كتبت تكون قد وصلت وافلحت, كم نصادف اناس في طريقنا ونجتمع معهم في محيطنا فلا تكن نسخة منهم وانت تملك اسما ولك كتابا فاكتب فيه ان فهمت, وكن حيث لا ينتظروك ولا تسمع لما يمدحوك, واهرب من ضيق وكرهم وفقر ما عندهم وارحل بعيدا عنهم قبل ان يسلبوك حريتك ففضائهم ضيق وعلمهم فقير وتيقن انهم لن ينفعوك.
واعلم ان من لم يناله الحظ والشرف ليكون مع المقربين فهو مع العامة, وتقول يا مسكين انك تعرف الله وانت ما زلت منهم فاين انت من المقربون, الا تعلم ان للملك مقربون وعلى موائده ينعمون, ولله الاسماء الحسنى فكم تعرف منها ام لا تعرف من الاسماء الا الشعراء والمغنون الذين يضللون الناس ويبكونكهم وبالوهم يتغنون, فخذ قلمك واكتب ما دام المداد وتوقف ان بدت لك العقد, وحرر فكرك منها واستمد بمدادا يفك العقد, فهي في فكرك فتحرر منها قبل انتهاء الامد, فلكل اجل كتاب فاغتنم كل نفس في الذكر ولا تعد, ودع العد لهم فهم الذين يحسبون ولا يخطؤون وهم عبادا لله الذين لا يعصونه ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون.
اسال من سبقوك ان كان يستجيبون فهم من سكنت مساكنهم ولم تتعض باخبارهم فهم الذين ظلموا انفسهم فليتهم ينطقون يا زائرا وغدا تصبح معهم فماذا اعددت ليوم تحدث اخبارها, هي امنا التي ولدتنا وستشهد علينا ماذا فعلنا فلا يغرنك كثر زوارها, وتزود بالتقوى غريبا ما اضاع العمر يبكي على حجارها, ونوربيتك بالقيام يوم الخلائق تنام فوحشة الطريق وقله الزاد لها اذكارها, واكرم الزائرين في ليلها فان تنفس الصبح صاح الديك اين عمارها,
فان نامت عينك ولم ينم قلبك فقد اتتك اسرارها.
واحذر ممن ربهم لا يعبدون, ومن لا يعبد ربه يعبد نفسه وهم كثر عبدة للدنيا وللدينار والدرهم, واحذر ان يغروك وان اردت ان تعرفهم فعليك ان تعرف ما يتكلمون, فهم قوم للكلام يعشقون لانهم لانفسهم يعشقون, تتبع ما يقولون والى ما يرمون فسترى كيف يقدمون انفسهم, وانظر الى سندهم وبماذا يستشهدون, واقراء ما يقولون فستجد في عميق قولهم انهم يثرثرون وفي انفسهم يتعبدون والكل يقول انا وانا دون ان يعلمون, واقراء في لحن قولهم نفاقهم وزيفهم ولكل لحن فما افقر سلعتهم وما يبيعون, فلا تكن معم فهم الذين ياكلون خيره ويشكرون انفسهم ويمدحون غيره, فدعهم للكبر الذي في صدورهم فليت الجهل لهم مرتبة ولكن لا يستحقون.
يا مسكين تتكلم عن الحبيب عليه الصلاة والسلام وانت لا تعرفه, فهل تعرف ملكا جلس على التراب وجالس الفقراء, وحمل حاجه اهله, وخصف نعله, ورقع ثوبه, وكنس بيته, وحلب شاته, وقرب الطعام لضيفه, وتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه, وجلس حيثما انتهى به المجلس, ولما رآه رجل ارتجف من هيبته فقال: ( هوّن عليك فانما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء) فهذه قطرات من فيض تواضعه صلى الله عليه وسلم...
وهل رأيت غنيا يداعب الاطفال ويواسي المستضعفين ويعطف على المساكين ويصل رحمه فهل تريد ان تتبعهم وتسلك دربهم وتبحر بعيدا عمن وصفه ربه وانك لعى خلق عظيم.
واعلم ان من خاف الله خاف منه كل شئ ومن لم يخافه خاف من كل شئ, والخوف درجات فبشدة خوفك من الله ترتقي ومن سال الامن والامان عند الله امنه من كل شئ ومن ابتغاه عند غيره زرع في قلبه الخوف من كل شئ ومن ابتغى العزة عند الله فقد البسه ثوب العز ومن ابتغاه عند غيره البسه ثوب الذل, ومن هان الله عليه اهانه كل شئ.
هذا العالم غريب كغربة المسلمين بين الامم فطوبا لمن كان منهم واغتنم.
نخاف من السمتقبل وكأننا نصنعه ونضع مخاوفنا بناءا على قواعد الدنيا ونظرياتها ونفتقر الى معرفة الله وعلاقته بالمستقبل وبقدرنا لاننا لا نعرف قدر الله حق قدره, وننظر الى الله انه مصدر الطاقة الذي نستمد منه الامل والاحساس بالامان ونلجئ اليه عندما تشتد علينا الصعاب ونعود لنثق بقدراتنا ونعود لنقع ونفشل ونكرر العمل لنعود الى الله ليعيننا وكل هذا دليل على اننا لم نزل في اول الطريق وقد نبقى العمر في اول الطريق وقد ندرك اننا مجرد مسلمون ونحاول ان نكون مميزون ببعض الاختلاف عن الغير.
عيلنا ان نفهم ان الخوف من اي شئ هو سر وسبب ليقربنا الى الله ليقوي ضعفنا في هذا الشئ, ودليل على افتقارنا الى الله وعدم كمالنا, ولان من عظيم رحمته انه ترك اغلب احتياجتنا بيده لنبقى فقيرين اليه ولا نذهب بعيدا عن باب عونه, ولانه من عظيم حكمته انه يعلم اننا لو اعطينا اغلب حوائجنا لكنا ابتعدنا عنه ووثقنا بانفسنا وقدراتنا.
كم هو رحيم بنا رغم غناه عنا وعن دعائنا وقربنا منه, ولكن هيهات ان نعبد الله على هذا المفهوم وان ننظر الى عميق حكمته ورحمته وكيف انه يريد بنا خيرا حتى عندما يكون الخوف هو الانفع لنا او ان يكون الخير انفع لنا فهو الحكيم العليم بخلقه وبسر وضعف كل عبد من عباده, فهذا لا يعرف الله الا بالخوف وهذا بالكرم وهذا بالمرض وذاك بالفقر, انه احكم الحاكيمن الذي يعرف فروقنا وخصائصنا كل على حده وما يلائم كل منا, فلو اغنى الفقير لترك عبادة الله واستغنى عنه ولو افقر الغني لكفر بربه ولو اشفى المريض لما عاد يدعوا الله, فيدع الجميع معلقين بالرجاء فيشفي المريض حين يدرك رحمة الله عليه, ويغني الفقير حين يعلم ان الغنى لن يكون وبال عليه, ويكرم الغني حين يعلم حق الفقراء عليه, ويفقره ان لم يفعل او يزيده فلا يعود اليه, وبهذا يعلم كل انسان ان لله حكمة في منع عنه او ابتلاه فيخاف الغني حينها من الفقر والسليم من المرض والفقير من ان يبقى فقيرا, فان وصل الى حيث اراد الله امنه من كل ما يخاف وذاك يعني ان هذا العبد عرف قدر الله وقدرته وان كل شئ بيده فازال الخوف من قلبه لانه استبدله بالتوكل والاخذ بالاسباب ودخل في ولايته.
وبهذا نفهم ان كل ما ينقصنا سر وعلامة ضعف بنا وفي مفهوم علاقتنا بالله وعدم ادراكنا لقدراته, فالسعي لا يعني الا البحث عن الاسباب اسباب الحياة والعيش, ولكن ان وضعنا ثقتنا في هذا السعي مثل الوظيفة او الشهادة او المال اوكلنا الله لما وثقنا به وربما زادنا ليبعدنا وجعل معه الخوف اكبر في قلوبنا فلا نامن لو ملكنا ما ملكنا ولا تطمئن قلوبنا مهما وصلنا.
المؤمن يعلم ان عبادة الله لا تبنى على الخوف وحده ولا على الطمع بزيادة بل على حق الله علينا كما هو حقنا عليه, بانه ربنا الموجود في حياتنا ومهما اتسعت فهو دليل قلوبنا وربنا وعليه فان حقه علينا ان نعبده لانه الله الرب الخالق وان الشوق اليه يجب ان يملئ قلوبنا لا ان نبكي على مخلفات الدنيا وحوائجها البالية, هو ربنا الذي سنعود اليه وتنتهي اليه حياتنا ونطمع بالجنة الحق والوعد الحق فلا تفصلنا الدنيا عن الاخرة فكل عمل ومال وصحة هو لاعانتنا لنعبد الله لليوم الذي سنقابله ونقف بين يديه.
الله اكبر من طقوس وعادات وكلام عن الدين وترديد بعض ايات واحاديث, الله هذا الوجود فينا والحياة فينا والخلق فينا فاين كنا واين سنكون, من عدم اوجدنا وخلقنا واكرمنا فلا يكون اليوم التراث الذي ننتسب اليه لنفرق انفسنا عن غيرنا ونحيي الاعياد والطقوس احيائا لعادتنا واعتيادنا.
المؤمن يقف عند نفسه وقلبه وروحه وسر وجوده لتصغر هذا الدنيا التي جعلوا منها كبيرة وهي حقيرة ليس فيها خيرا الا ذكر الله.
المؤمن من عبد الله باليقين لا بالشك والتخمين وصبر صبر الانبياء مهما شككه الضعفاء وذكر قول الله حتى يقول والرسول والذين معه متى نصر وقوله حتى اذا استيئس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا جائهم نصرنا, فلا يثنيه شدة الابتلاء ولا يقنط من رحمة السماء ووعده فنجي من نشاء.
المؤمن هو الحق والقوة واليقين الذي في قلبه فلا يطلع عليه الا ربه فان دخل على الظالم راه ضعيفا والغني فقيرا والسليم سقيما فمن هم من دون الله, فاي مؤمن يعطي الاموات فوق قدرهم.
فيشد رحاله الى حقيقة الدنيا ومنتهاها مهما طال اجله فيعيش مع الناس بجسده فيكون غريبا بينهم ليس لهم منه الا ما ينفعهم وينفعه ولا يرضى ان يسلبوه وياخذوه الى ما لا ينفعه, فان ياس منهم هجرهم واكتفى شرهم.
فالمراءة ان وفقها الله بزوج صالح حمدت وشكرت ربها لانه سيكون معينا لها في دينها على دنياها وكذلك الزوج لزوجته فان قصرت في عبادة ربها سلبها ما حسبته قوة وامنا فصار زوجها ضعيفا وعادت لخوفها, فان قالت لماذا قلنا لها لانك نقلت النسبة التي كنت تعبدين الله بها الى زوجك فصار لك اشبه بربك وكذلك المال لمن قام الليل وبكى وصام ودعى وارتجى حين اعطي المال عبده فصار هذا المال ربه.
لو علمنا ان الزوج او الزوجة او المال او البيت او الصحة وكل نعمة انعم الله علينا بها لتكون معينا لنا في عبادته فتزداد فينا طاعته فيزيدنا من فضله ومن رحمته, فان سالناه اياها وانعم علينا بها فعبدناها اوكلنا لها ففقدناها وعدنا الى بابه بثوب الذل نشتكي ابتلائاتنا ونحن الذين كتبناها.