الحمد لله الذي بين سبل الفلاح، ورتب الرحمة على التقوى والإصلاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه وبحمده بالغدو والرواح، والمساء والصباح، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، جعله الله أسوة في الصلاح والإصلاح، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين سعدوا بالفلاح والنجاح، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى:
وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [سورة الأنفال:1].
معشر المسلمين: كثير ما يكون بين الناس منازعات وخصومات، وذلك نتيجة لاختلاف الأهواء والرغبات والاتجاهات، ومن ثم فإن المنازعات والخصومات تسبب البغضاء والعداوات، وتفرق بين المسلمين والقرابات، ومطلوب منا أن نسعى إلى الإصلاح بكل الوسائل والإمكانات، قال الله تعالى:
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [سورة الحجرات:10].
أيها المسلمون: لقد أرسل الله تعالى نبيه محمدا
رحمة للعالمين؛ ليجمع على الإيمان قلوب المؤمنين، ويزيل من قلوبهم كل أسباب الشحناء، ويطهر نفوسهم من كل أسباب البغضاء، ليكونوا إخوانا متحابين، فإذا وجد بين بعضهم خصومة وشحناء ونزاع وبغضاء أمروا أن يتقوا الله، وأن يصلحوا ذات بينهم، وعلى المسلمين أن يسعوا في الإصلاح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وقد كتب عمر بن الخطاب
إلى أبي موسى الأشعري
: ((رد الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن))، (من تفسير القرطبي :ج5 ص384).
وقد قال تعالى:
وأصلحوا ذات بينكم ، أي أصلحوا ما بينكم من أحوال الشقاق والافتراق حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، ليكون المسلمان المتشاحنان متعرضين لمغفرة الله والجنة.
عن أبي هريرة
أن رسول الله
قال:
((تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس لكل عبد لا يشرك بالله شيئا وفي رواية: تعرض الأعمال في كل يوم خميس وإثنين فيغفر الله – عز وجل – في ذلك لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)) (رواه مسلم – رحمه الله - :ص1987ج4).
أيها المسلمون: لقد اهتم الإسلام بإصلاح ذات البين حفاظا على وحدة المسلمين، وسلامة قلوبهم، وإن الإصلاح يعتبر من أعظم وأجل الطاعات، وأفضل الصدقات، فالمصلح بين الناس له أجر عظيم، وثواب كريم، إذا كان يبتغي بذلك مرضاة الله تعالى، فأجره يفوق ما يناله الصائم القائم، المشتغل بخاصة نفسه، عن أبي الدرداء
قال: قال رسول الله
:
((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة)) (رواه أبو داود وغيره :ص929ج3) ومعنى الحالقة: أي تحلق الدين.
وعن أبي هريرة
قال :قال رسول الله
:
((كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم يعدل بين الناس صدقة)).
رواه البخاري – رحمه الله – وفي رواية لمسلم قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة. (ص699ج2 مسلم ). قوله تعدل بين الاثنين أي تصلح بينهم بالعدل.
أيها المسلمون: إن الإصلاح بين الناس تفضل فيه النجوى، وهي السر ودون الجهر والعلانية، ذلك أنه كلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه، لأن الإنسان يتأذى من نشر مشاكله أمام الناس، فالسعي في الإصلاح يحتاج إلى حكمة، وإلا فإن الساعي أحيانا قد يزيد من شقة الخلاف وحدته، قال تعالى:
لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً [سورة النساء:114].
أيها المسلمون: ولأهمية الإصلاح بين الناس رخص فيه الكذب، وذلك إذا كان سبيلا للإصلاح ولا سبيل سواه، عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله
يقول:
((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا)) (رواه البخاري: فتح الباري ج5ص299)، قوله:
((ينمي خيرا)) أي: ينقل الحديث على وجه الإصلاح، وفي صحيح مسلم: قال ابن شهاب – رحمه الله -: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها (ج4ص2011)، فأما الكذب في الحرب فإن الحرب خدعة، ومن ثم فإن الأمر يستدعي التمويه على الأعداء، ويتحدث بما يقوي به أصحابه ويكيد به عدوه مثل أن يقول جيش المسلمين كبير وجاءهم مدد كثير.
وأما الكذب في الإصلاح بين الناس، فمثل أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقوالهما بما يحقق التقارب، ويزيل أسباب الشقاق والخلاف، وأحيانا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما، وينسب إلى كل منهما من الأقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله مثل أن يقول: فلان يسلم عليك ويحبك، وما يقول فيك إلا خيرا ونحو ذلك، وأما الكذب بين الزوجين، فقد قال ابن حجر – رحمه الله -: المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها، وذلك أن الكذب بينهما قد يحتاج إليه أحيانا بحيث يخفي كل واحد منهما عن الآخر ما من شأنه أن يوغر الصدور، أو يولد النفور، أو يثير النزاع والفتن، ويزرع الشقاق والإحن، فمثلا لكل واحد منهما أن يخاطب الآخر بمعسول القول ما يزيد الحب، ويسر النفس، ويجمل الحياة يبنهما، وإن كان ما يقال كذبا، قال الخطابي – رحمه الله -: كذب الرجل على زوجته مثل أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه؛ ليستديم بذلك صحبتها، ويصلح بها خلقها
أيها المؤمنون: إن أطيب حياة يعيشها المؤمن والمؤمنة في هذه الدنيا، هي حينما يكون مراقبا لله حسن الطوية لعباد الله. فأصلح – أيها المسلم – ما بينك وبين الله يصلح الله ما بينك وبين الناس، واحذر أسباب الشحناء والبغضاء، وإذا جاء إليك أخوك معتذرا فأقبل معذرته ببشر وطلاقة؛ بل ينبغي أن تسعى أنت إلى إنهاء الشحناء وإن كان لك الحق، قال عمر –
-: أعقل الناس أعذرهم لهم، وقال الحسن بن علي – رضي الله عنهما -: لو أن رجلا شتمني في أذني هذه واعتذر إلي في أذني الأخرى لقبلت عذره. (ص 340 ج1/الآداب الشرعية لابن مفلح)، وروي أن الحسين بن علي كان بينه وبين أخيه محمد بن الحنفية خصومة – عليهم رضوان الله – وبعد أيام كتب محمد بن الحنفية رسالة ضمنها اعتذاره منه، فما إن وصل الكتاب إلى الحسن حتى قام لساعته وذهب إلى أخيه محمد، فالتقلا به في منتصف الطريق، فتعانقا وبكيا وتصالحا. (ص 501/الحلال والحرام لأحمد عساف بتصرف).
أيها المسلم: إذا علمت أن بين اثنين من إخوانك أو قرابتك أو أرحامك أو أصحابك أو جيرانك شحناء أو قطيعة، فعليك أن تبذل وسعك وغاية جهدك في الإصلاح بينهما، وإياك أن تتكاسل عن هذا العمل الجليل من أجل الاستماع إلى إيحاءات الشيطان، وأقوال المخذولين الذين يقولون: أنت في عافية فلا تكلف نفسك فيما لا شأن لك به، بل عليك – وأنت تقدر على ذلك – أن تسعى لإزالة أسباب التفرق والشحناء بين أخويك، فالصلح خير وذلك رحمة بهما وشفقة عليهما وطمعا في فضل الله ورحمته التي وعدها من أصلح بين الناس، قال تعالى:
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .
أيها المسلمون: لقد كان لكم في رسول الله
أسوة حسنة، فلقد كان
يسعى بنفسه للصلح بين المتشاحنين مؤكدا بذلك أهمية الإصلاح بين الإخوة المؤمنين، فعن سهل بن سعد
أن ناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي
في أناس من أصحابه يصلح بينهم. (فتح الباري ج5 ص297) حتى أوشك أن تفوته صلاة الجماعة، وفي رواية قال:
((اذهبوا بنا نصلح بينهم)).
أيها المسلمون: بل إن الله تعالى ليصلح بين عباده يوم القيامة، قال ابن كثير – رحمه الله – عند قوله تعالى:
وأصلحوا ذات بينكم ، قال: ولنذكر هاهنا حديثا أورده أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس
قال: بينما رسول الله
جالس إذا رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة - تبارك وتعالى – فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى: أعط أخاك مظلمته. قال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء. قال: رب فليحمل عني من أوزاري، قال: ففاضت عينا رسول الله
بالبكاء، ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى الطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه، فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال هذا لمن أعطى ثمنه، قال: رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت تملكه قال: ماذا يا رب؟ قال: تعفو عن أخيك، قال: يا رب قد عفوت عنه، قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فادخلا الجنة، ثم قال
: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة.
أسأل الله أن يجعلنا من الصالحين المصلحين، وأن يوفقنا لحسن العمل وصالح الأخلاق، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم