بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين
أما بعد,
عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اسْتَفْتِ قَلْبَكَ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَـيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَـيْهِ الْقَلْبُ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِـي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِـي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْك ".
أخرجه الإمام أحمد والدارمي بإسناد حسن.
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا حديث عظيم ووحي جليل, لا يستطيع منكر أنكاره لأنه مثال عملي لكل صاحب فطرة سليمة للتفريق بين الأثم والبر.
فإنك تجد في الناس - وهذا واقع مشاهد - رجلاً عامياً لم يقرأ ولم يكتب يوماً من الايام ولكنه يتحرج من أفعال وأعمال, يجد حرج شديد في فعلها وتحيك في صدره وتلفظها نفسه, وأن أفتوه المفتين وتكلموا فيها نجوم المحطات الفضائية بإباحتها له ولغيره من الناس!!
فهذا الحديث فيه توجيه لكل صاحب فطرة سليمة يتحرى الحق ولا يرضى بغيره بديلاً, بأن يعرض كل فتوى على قلبه السليم الصحيح فإن قبلها بدون حرج فهي برَّ وأن حاكت في نفسه فهي أثم والكلام ليس لأصحاب القلوب المريضة الشهوانيه أو الميتة القاسية نعوذ بالله من ذلك.
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرف هو يخاطب من بهذا الحديث المتقدم " أستفت قلبك " والمخاطب صحابي جليل صاحب قلب سليم ودلالة الحديث بيّنه - لمن وفقه الله - وتظهر من سياق الحديث ومن مناسبته ومن فهم أهل العلم له ومن الأختلاف بين قلوب البشر فمنهم صاحب قلب سليم وآخر له قلب مريض بل وهناك من قلوبهم كقلوب الشياطين كما صح في الخبر.
وقد قسم أهل العلم القلوب الى ثلاثة أنواع كما يقول ابن القيم في أغاثة اللهفان القلوب ثلاثة:
فالقلب الصحيح السليم: ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو صحيح الإدراك للحق، تام الانقياد والقبول له.
والقلب الميت القاسى: لا يقبله ولا ينقاد له .
والقلب المريض: إن غلب عليه مرضه التحق بالميت القاسى. وإن غلبت عليه صحته التحق بالسليم.أهـ [صفحة 18-طبعة دار طيبة]
فكيف يكون هذا الحديث لكل أحد والناس فيهم العالم والجاهل والتقي والمنافق والمهتدي والضال, فيصبح الدين متنازع بين الأهواء والنحل والملل وكلاً يصبح على حق!!؟
فهذا فهم سقيم نعوذ بالله من هذا الفهم, وللأسف قد أستشهد بعض الناس بهذا الحديث بجواز أن يجتهد العامي.
وهذا الفهم إما هو جهل بكلام أهل العلم وجهل في إستنباط الدلالة وإما هوى مطاع والعياذ بالله.
يقول ابن القيم رحمه الله في اعلام الموقعين:
لا يجوز للمستفتي العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحَاكَ في صَدْره من قبوله، وتردد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «اسْتَفْتِ نَفْسَكَ وإن أفتاك الناسُ وأفْتَوكَ» فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه؛ فإنما أقْطَعُ له قطعة من نار» والمفتي والقاضي في هذا سواء، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جَهْلَ المفتي أو محاباته في فتواه أو عدم تقيـيده بالكتاب والسنة أو لأنه معروف بالفتوى بالحِيَل والرخص المخالفة للسنة وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفَتْوَاه وسكون النفس إليها؛ فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي يسأل ثانياً وثالثاً حتى تحصل له الطمْانينة؛ فإن لم يجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والواجب تقوى الله بحسب الاستطاعة.أهـ [ج 6 صفحة 192-طبعة دار ابن الجوزي]
يدل كلام الإمام ابن القيم رحمه الله على أنه يجب على المستفتي أن يستفتي أهل العلم ثم قبل أن يعمل بالفتوى لابد له أن يستفتي قلبه (هذا طبعاً في حاله تجرده للحق) هل هو مرتاحاً لفتوى ذلك العالم أو وجدها تصادم نصاً من كتاب الله أو سنة رسوله فعنئذاً يجب عليه سؤال عالماً أخر حتى يزول عن قلبه الشك, لأن صاحب القلب السليم لا تزيده الشبهات والشكوك الا قوة لأنه بطبعة يكره الباطل ولا يستطيع قبوله وهذه نعمة من الله لأصحاب هذه القلوب, والعكس بالعكس للقلوب الميته والمريضة.
يقول ابن القيم رحمه الله: فما يلقيه الشيطان - وأعوانه - فى القلوب من الشبه والشكوك: فيه فتنة لهذين القلبين - المريض والميت - وقوة للقلب الحى السليم. لأنه يردّ ذلك ويكرهه ويبغضه، ويعلم أن الحق فى خلافه، فيخبت للحق قلبه ويطمئن وينقاد، ويعلم بطلان ما ألقاه الشيطان، فيزداد إيمانا بالحق ومحبة له وكفرا بالباطل وكراهة له.أهـ [أغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ص 19 نفس الطبعة]
ثم لتعلم يا عبد الله بأن أخذ الحديث على ظاهره بدون التفقه فيه ومعرفة مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجرك الى مشابهة الزنادقة والكفره من الباطنية وأصحاب الحلول وأصحاب الخواطر الشيطانية الكاذبة.
كما حكى ذلك القرطبي رحمه الله في تفسيره بقوله:
ومن هذا النَّمط من أعرض عن الفقه والسّنَن وما كان عليه السلف من السنن فيقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا؛ فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار وخلوّها عن الأغيار، فتتجلّى لهم العلوم الإلٰهية والحقائق الرّبانية، فيقفون على أسرار الكليّات ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة، إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص، فلا يحتاجون لتلك النصوص. ويستدلون بما جاء في الخبر: استفت قلبك وإن أفتاك الْمُفْتُون.أهـ [سورة الانعام:93]
وأخيراً هذه فتوى للشيخ العلامة محمد الصالح العثيمين رحمه الله:
وسئل الشيخ – رحمه الله
البعض يقوم بأداء ما أمر الله عز وجل وحين يشكل عليه أمر فإنه يتخذ فيه رأياً وفق ما يظهر له من فهمه وتقديره ويقول:استفت قلبك,مع قلة علمه الشرعي,فهل يجوز له هذا؟وعندما ينبه إلى أنه يجب عليه أن يسأل أهل العلم فإنه يقول:كل إنسان ونيته؟
فأجاب قائلاً:هذا لا يجوز له, والواجب على من لا يعلم أن يتعلم ومن كان جاهلاً أن يسأل,أما يخاطب به رجلاً صحابياً قلبه صاف,ليس ملطخاً بالبدع والهوى,و لو أن الناس أخذوا هذا الحديث على ظاهره,لكان لكل واحد مذهب,ولكان لكل واحد ملة,لقلنا إن أهل البدع كلهم على حق؛لأن قلوبهم استفتوها فأفتتهم بذلك,و الواجب على المسلم أن يسأل عن دينه,ويحرم على الإنسان أن يقول على الله بلا علم,أو على رسوله,ومن ذلك أن يفسر الآيات أو الأحاديث بغير ما أراد الله ورسوله .أهـ [مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين المجلد 15 صفحة 447]
وختاماً أسال الله الحليم رب العرش العظيم أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم وأن ينفعني وينفع بها من شاء من المسلمين أنه قادر حكيم كريم.
وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين