الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ً وبعد..فمما لا شك فيه أن للصيام قيماً وفوائد صحية على تعود على الصائم سواء كان ذلك في مجال صحة الجسم أو الصحة النفسية أو حتى في مسألة الوقاية
يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصدور) (من يونس:57)
وقال أيضاً: ( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) (من النحل:69)
وقال عز من قائل : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (من الإسراء:82)
وقال وقوله الحق : ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ) (من فصلت:44)
أداء العبادات عموماً :
وأداء العبادات يورث في النفس سكينة ورضا .. ويجعل المرء يحيا في هذه الدنيا حياة طيبة خالية من الهموم والوساوس والغم والحزن قال تعالى : {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97)
وفي المقابل طاعة الشيطان وعصيان أوامر الرب تورث القلق والحيرة والاضطراب والضيق والضنك يقول تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124) ويقول أيضا في وصف من أسلم نفسه للشياطين : ) كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ) (الأنعام:71)
ويقول في وصف المنافقين الذين علاهم الشك والريب وترددوا في قبول الحق
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (النساء:143)
ووصف من أعرضوا عن طاعة الله واختاروا سبيل الغي بأنهم يعيشون في هذه الدنيا بقلوب ولكن لا ينتفعون بها فهم لا يفقهون وبأعين لا يبصرون بها وبآذان لا يسمعون بها والمراد أنهم يعيشون في ضلال وحيرة وضياع يعيشون في الدنيا بلا هدف كالأنعام بل الأنعام أفضل منهم بكثير، فما هو طعم الحياة بعد ذلك؟ ؛ يقول الله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179)
وكما قال في سورة الفرقان : ( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(الفرقان: من الآية44)
ويقول أيضا في الجمع بين الصورتين في آية واحدة : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام:125)
وكما ذكرنا تأتي المعاصي في أول الأسباب التي تجلب الغم والكمد والحزن والهم والقلق النفسي فكما قيل : رب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا
علاج الخوف والحزن والهموم يأتي في اتباع شرع الله:
فقد جاءت عبارة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في 12 موضعاً في القرآن الكريم كلها تدور حول استحقاق من أطاع الله وأحسن في طاعته لنعمة الأمن والسرور وزوال الخوف والحزن وهاكم بعض هذه الآيات :
( فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38)
( فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام:48)
( فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأعراف:35)
(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62)
الصلاة على النبي وصلاة النبي على المؤمنين:
وكذلك ثبت القرآن الكريم أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين سكن لهم أي استقرار نفسي ( إن صلاتك سكن لهم ) [ التوبة : 103 ]
وقال صلى الله عليه وسلم :" إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم" [ من حديث أبي هريرة عند مسلم]
ومن الأسباب الجالبة للسكينة والطمأنينة : الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ففي فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ صَلَّى عَليَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِها عَشْراً " رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، وصلاة الله على العبد هي رحمته وبركته التي تتنزل على ذلك العبد الصالح ، فما بالكم برجل صلى الله عليه هل يحس بعد هذا بضيق وهم أو تعتريه الوساوس ؟
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال "إذا يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك" رواه أحمد والترمذي وأورده الألباني في صحيح الترغيب برقم :1670
الذكــر
وكذلك يأتي ذكر الله وتلاوة القرآن الكريم ليصبا في نفس المصب فالذكر يورث في النفس السكينة وفي القلب الطمأنينة ؛ قال الله تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28)
عَن أنَسِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: "كَانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: يَا حَيّ يَا قَيّومُ بِرَحْمَتِكَ أسْتَغِيثُ". رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم : 4777
وَبإِسْنَادِهِ قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "أَلِظّوا بِيَاذَا الْجَلاَلِ والإِكْرَامِ" رواه النسائي عن أنس وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم :1536 والوادعي في الصحيح المسند برقم341
وروى أبو داود عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاّ نَزَلَتْ عَلَيْهِم السّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُم الرّحْمَةُ وَحَفّتْهُم المَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمْ الله فيمَنْ عِنْدَهُ". رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة
وقد نبه القرآن الكريم على أن ذكر الله يورث الطمأنينة والثبات ولو في أحلك المواقف مثل موقف الحرب ضد الأعداء يقول الله تبارك وتعالى : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال:45)
وقال تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران:174-173)) ، وذكر الله يحمي من الشيطان وبالتبع يقي من الوساوس التي يلقيها الشيطان في النفوس فتسبب القلق والضيق والاكتئاب : وفي الحديث :" وآمركم أن تذكروا اللّه فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر اللّه " رواه الترمذي عن أبي مالك الأشعري ، وانظر صحيح الترغيب : 552
الصلاة
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : أرحنا بها يا بلال
وهذا أحد نصوص ذلك الحديث: عن سَالِمِ بنِ أَبِي الْجَعْدِ قال قال رَجُلٌ قال مِسْعَرٌ: أُراهُ مِنْ خُزَاعَةَ: "لَيْتَنِي صَلّيْتُ فاسْتَرَحْتُ، فكَأَنَهُمْ عَابُوا ذَلكَ عَلَيْهِ، فقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يا بِلاَلُ أَقِمِ الصّلاَةَ أَرِحْنَا بِهَا" رواه أبو داود وصححه الألباني في المشكاة برقم 1209
وقال : "جعلت قرة عيني في الصلاة" رواه النسائي والحاكم عن أنس رضي الله عنه،وصحححه الألباني في زاد المعاد145/1
وكان إذا حزبه أمر صلى رواه أحمد وأبو داود عن حذيفة رضي الله عنه ، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم 1171
وسماها شفاء فقال لأبي هريرة رضي الله عنه : "قم فصل فإن في الصلاة شفاء" رواه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه وضعفه السيوطي والألباني وقال الأخير : الأقرب أنه موقوف على أبي هريرة وأنه قال ذلك لمجاهد
الصيام:
أما الصيام فهو خير معين على استقرار الصحة النفسية للمرء ؛ يقول الله تبارك وتعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }. [ البقرة : 183 ]
فمما لا شك فيه أن التزام أوامر الله يسبب حصول التقوى والهداية ؛فالإنسان المهتدي هو المستقر نفسياً الذي اتضحت أمامه الحقائق فيسهل عليه اتخاذ القرار الصحيح دون تردد أو خجل أو وسوسة كما أن المهتدي متزن في علاقاته مع الآخرين فلا توجد عنده ضلالات delusionsسواء كانت هذه الضلالات من نوع ما يسمى بضلالات الاضطهاد delusions of perscusion وذلك لأنه لا يسيء الظن بالآخرين بل يحمل الأمور على محاملها الحسنة ،أو كانت تلك الضلالات من نوع ضلالات الإحساس بالعظمة delusions of grandiosityفهو متواضع يقابل الناس بالبشر والترحاب
كما يتمتع الصائم بنظرة مستقبلية رائعة للأمور foresightلأنه -وكما سبق أن بينا - مستقرٌ نفسياً ؛ ولهذا فهو ليس من أصحاب الشخصيات المترددة amphoteric personality
*والصوم يساعد أيضاً على تحسن الأخلاق والسلوك morals and behavior وذلك لما يحدثه الصوم من انكسار لحدة الشهوات في الإنسان وهنا يأتي التوجيه النبوي الشريف في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " يَا مَعْشَرَ الشّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوّجْ، فَإِنّهُ أَغَضّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِيعْ فَعَلَيْهِ بِالصّوْمِ، فَإِنّهُ لَهُ وَجَاءٌ " رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
أي وقاية من الشهوات وما قد ثورثه في النفس من آلام وندم كما يقولون : رب شهوة أورثت ندماً ورب معصية أورثت ألماً .
*والصيام يزيد من قوة الإرادة لأنه يمرن على الصبر والتحمل ففي الحديث الشريف الذي أخرجه الترمذي والبيهقي عن رجل من بني سليم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الصوم نصف الصبر". ضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم :3228 (فيه جري النهدي وهو في عداد المجهولين ) لكن قال فيه ابن حجر أنه مقبول
*والصوم يساعد على التركيز concentration وصفاء الذهن وخلوه من التشويش وكذلك حسن الإدراك لما حول الإنسان orientationوقد لوحظ زيادة مستويات الإبداع عند مجموعة من الطلبة الجامعيين الموهوبين أثناء فترات صيامهم وهذا لا يحتاج إلى مجهود كبير في تبريره لأن زيادة الطعام تؤدي إلى الكسل بسبب ارتفاع مستوى السكر في الدم عقب الطعام والعكس صحيح لذا نجد أن المرء يصاب بالخمول والإحساس بالحاجة إلى النوم والاسترخاء بعد الطعام خصوصاً إذا كانت نوعية الطعام من الوجبات الدسمة.
كما لوحظ أن حالات الوسواس القهري التسلطي obsessive compulsive neurosisتتحسن بدرجة ملحوظة إذا داوم المريض على الصيام .
* والصوم علاج أكيد للاكتئاب depression سواء كان هذا الاكتئاب داخلياً endogenous depression أو له أسباب خارجية exogenous depression
يقول الدكتور شيلتون في كتابه المسمى بـ ( التداوي بالصوم): [ تتحسن القوى الفكرية والقدرة على المحاكاة والعاطفة والمحبة وقوة البديهة والحدس أثناء الصيام]
وفي الحقيقة هذه كلها أمور مجربة لا نحتاج فيها إلى شهادة أحد فكيف إذا جاءتنا هذه التوجيهات من الحكيم الخبير!!