الاختلاف في الرأي طبيعة بشرية بسبب اختلاف العقول والفهوم والنشأة ، وقد اختلف الناس في مسائل الدين ومسائل الدنيا في كل العصور وشتى الأماكن ، ولن يتوقف الناس عن سنة الاختلاف فيما بينهم ما دامت السماوات والأرض ، والاختلاف هو الذي يجعلنا نميز بين الناس ، ونتعرف على الصواب والخطأ ، ونتعرف على الغث والسمين ،قال تعالى : {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} [هود:18]. والاختلاف ليس كله شرا كما يظن بعض الناس ، فلولا اختلاف العقول وتنوع الفهوم ما شهدنا هذا التطور الهائل الذي نعيشه في هذا العصر في شتى مجالات الحياة.
و الاختلاف في الرأي لا يكون صحيا ولا مفيدا إلا إذا كان نابعا من رغبة حقيقية في الوصول إلى الهدف المنشود وتحقيق الغاية المطلوبة،وعند تحقق هذا الشرط لا يبالي المختلفون في أي جانب يكون الصواب أو تكمن الحقيقة. يقول الشافعي رحمه الله :
” ما كلَّمت أحداً قطُّ إلا أحببت أن يوفَّق ويسدد ويعان , ويكون عليه رعاية من الله وحفظ , وما كلمت أحداً قطُّ إلا ولم أبال بيَّن الله الحقَّ على لساني أو لسانِه “
الفقيه والمتفقه (2/49) .
والإختلاف الصحي هو الذي يجري في جو من الإخاء والمحبة و يحترم فيه كل طرف الطرف الآخر وفي ذلك يقول محمد بن الشافعي :
” ما سمعت أبى ناظر أحدًا قط فرفع صوته “ .
والاختلاف الصحي هو الذي تختفي فيه حظوظ النفس عند كلا الطرفين، ولا يكون هم كل طرف تحقيق الغلبة لما يتبناه من آراء ووجهات نظر،
ويقول الشافعي رحمه الله :” ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة ” .
تهذيب الأسماء واللغات ( 1 / 66 )
والاختلاف الصحي هو الذي يراعي فيه المختلفون فقه المرحلة وظروفها، فهناك أوقات لا يصلح فيها الاختلاف مهما كان يسيرا وإنما ينبغي أن يكون الناس فيها على قلب رجل واحد ويتناسوا خلافاتهم ولو إلى حين.
إن من أسوأ ما يمكن أن يؤدي إلى ظاهرة الاختلاف المذموم هو تغليب حظوظ النفس والرغبة في الانتصار للنفس والإعلاء من قيمة الآراء الشخصية حتى لو لم تكن صوابا على حساب المصلحة العامة.
إن تغليب حظوظ النفس وإتباع الهوى يفسد العلاقات ويذهب بالمودة بين الدعاة والعاملين للإسلام من أبناء المدرسة الواحدة وهو نفس السبب الذي يحول دون توحد هذه المدارس الدعوية المختلفة على مدار عقود، فكل فريق يحسب أنه على الحق وأن منهجه هو المنهج الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، بل ووصل الأمر أن ينقسم الكيان الواحد إلى كيانات متنافرة متصارعة ، وكل فريق يريد أن يمضي رأيه دون ان ينظر إلى عواقب الخلافات والتفرق في إضعاف كل هذه الكيانات الدعوية وعدم قدرتها على الصمود في وجه مخططات أهل العلمنة والنفاق من المتربصين والحاقدين.
وقد تكون الاختلافات والتمسك بالرؤى الشخصية مقبولا في الأوقات العادية التي يعمل فيها الدعاة دون ضغوط أو توترات أو ملاحقات ، حيث تبرز حظوظ النفس عند البعض رغبة في الظهور والصدارة ، وأما في أوقات المحن والقهر فإنه لا يتقدم للمسؤوليات إلا الأقوياء الذين با عوا أنفسهم لله رخيصة في سبيل دعوتهم ولا يصمد إلا الراسخون من أصحاب الهمم العالية ، وإذا وقعت الخلافات في أوقات المحن والقهر وتحزب هؤلاء لما يرون وتحزب هؤلاء لما يرون ، وسار هؤلاء في طريق واتخذ هؤلاء طريقا آخر ، فإن هذا نذير خطر عظيم وشر مستطير ودليل بين وواضح أن هؤلاء وهؤلاء ينقصهم فقه المرحلة ، ويسيرون إلى حتفهم ويخاطرون بمن وراءهم.
إن المرحلة التي تعيشها الأمة الإسلامية والظروف العصيبة التي تمر بها الدعوة الإسلامية تحتاج منا أن نتعالى ونتسامى فوق الخلافات بيننا وأن يلين بعضنا بأيدي بعض مهما كان حجم هذه الخلافات ومهما كانت وجاهتها ، فالأمة ليست بحاجة إلا مزيد من التشرذم والتفرق ،وينبغي على الجميع أن يدرك أن هذه الخلافات والتشرذمات بمثابة خرق في سفينة الدعوة ، وأن هذه السفينة لو غرقت- لا قدر الله- فسوف تغرق بجميع من كان فيها سواء من كان من أصحاب الرأي الصائب أو الرأي الأصوب ، وإن سارت مع وجود هذا الخرق ، لن تبتعد كثيرا ولن تصمد أم الأمواج العاتية والرياح المدمرة.
فلنوحد الجهود ، ولنجدد العهود مع الله ، ولنطرح حظوظ النفس والهوى ، فإن الطريق كثير العقبات مملوء بالأشواك ,ولنعمل يدا واحدة فإن هدفنا واحد وغايتنا واحد ورحم الله شوقي الذي يقول:
إنّ المصائب يجمعن المصابينا
وإذا حققنا ذلك فإن النصر مضمون بإذن الله، وما أروع هذه الكلمات من صاحب الظلال: “إنَّ موكب الدعوة إلى الله موغلٌ في القدم، ضاربٌ في شعابِ الزمن، ماضٍ في الطريق اللاحب، ماضٍ في الخط الواصب.. مستقيم الخطى، ثابت الأقدام.. يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون، ويُصيب الأذى مَن يصيب من الدعاة، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء.. والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد.. والعاقبة هي العاقبة مهما طال الزمن ومهما طال الطريق.. إنَّ نصرَ الله دائمًا في نهاية الطريق”.
بقلم/ جهلان إسماعيل