مثل المؤمن كمثل شجرة
أيها الأحبة الفضلاء
عن ابن عمر ولفظه " قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : إن مثل المؤمن
كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة , أتدرون ما هي ؟ قالوا : لا . قال : هي النخلة , لا تسقط لها أنملة , ولا
تسقط لمؤمن دعوة " . ووقع عند المصنف في الأطعمة من طريق الأعمش قال : حدثني مجاهد عن ابن
عمر قال " بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجمار , فقال : إن من الشجر لما بركته
كبركة المسلم " وهذا أعم من الذي قبله , وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها , مستمرة في جميع
أحوالها , فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعا , ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها , حتى النوى في
علف الدواب والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى , وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال ,
ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته . ووقع عند المصنف في التفسير من طريق نافع عن ابن عمر
قال " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها
ولا ولا ولا " كذا ذكر النفي ثلاث مرات على طريق الاكتفاء , فقيل في تفسيره : ولا ينقطع ثمرها ولا
يعدم فيؤها ولا يبطل نفعها . ووقع في رواية مسلم ذكر النفي مرة واحدة فظن إبراهيم بن سفيان الراوي
عنه أنه متعلق بما بعده وهو قوله " تؤتي أكلها " فاستشكله وقال : لعل " لا " زائدة ولعله " وتؤتي
أكلها " , وليس كما ظن , بل معمول النفي محذوف على سبيل الاكتفاء كما بيناه . وقوله " تؤتي "
ابتداء كلام على سبيل التفسير لما تقدم . ووقع عند الإسماعيلي بتقديم " تؤتي أكلها كل حين " على
قوله " لا يتحات ورقها " فسلم من الإشكال .
قوله : ( فوقع الناس )
أي ذهبت أفكارهم في أشجار البادية , فجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع وذهلوا عن النخلة , يقال
وقع الطائر على الشجرة إذا نزل عليها .
قوله : ( قال عبد الله )
هو ابن عمر الراوي .
قوله : ( ووقع في نفسي )
بين أبو عوانة في صحيحه من طريق مجاهد عن ابن عمر وجه ذلك قال : فظننت أنها النخلة من أجل
الجمار الذي أتي به , وفيه إشارة إلى أن الملغز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال
, وأن الملغز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للملغز بابا يدخل منه , بل كلما قربه كان
أوقع في نفس سامعه .
قوله : ( فاستحييت )
زاد في رواية مجاهد في " باب الفهم في العلم " ; فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم . وله
في الأطعمة : فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم . وفي رواية نافع : ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان
فكرهت أن أتكلم , فلما قمنا قلت لعمر : يا أبتاه . وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار عند المؤلف في
" باب الحياء في العلم " قال عبد الله : فحدثت أبي بما وقع في نفسي فقال : لأن تكون قلتها أحب إلي
من أن يكون لي كذا وكذا وكذا . زاد ابن حبان في صحيحه : أحسبه قال : حمر النعم . وفي هذا الحديث
من الفوائد غير ما تقدم امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه . وأما ما رواه
أبو داود من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأغلوطات - قال الأوزاعي أحد
رواته : هي صعاب المسائل - فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه , أو ما خرج على سبيل تعنت المسئول
أو تعجيزه , وفيه التحريض على الفهم في العلم , وقد بوب عليه المؤلف " باب الفهم في العلم " . وفيه
استحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة , ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت , وقد بوب عليه
المؤلف في العلم وفي الأدب . وفيه دليل على بركة النخلة وما يثمره , وقد بوب عليه المصنف أيضا .
وفيه دليل أن بيع الجمار جائز ; لأن كل ما جاز أكله جاز بيعه , ولهذا بوب عليه المؤلف في البيوع .
وتعقبه ابن بطال لكونه من المجمع عليه , وأجيب بأن ذلك لا يمنع من التنبيه عليه لأنه أورده عقب
حديث النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها , فكأنه يقول : لعل متخيلا يتخيل أن هذا من ذاك , وليس
كذلك . وفيه دليل على جواز تجمير النخل , وقد بوب عليه في الأطعمة لئلا يظن أن ذلك من باب إضاعة
المال . وأورده في تفسير قوله تعالى : ( ضرب الله مثلا كلمة طيبة ) إشارة منه إلى أن المراد بالشجرة
النخلة . وقد ورد صريحا فيما رواه البزار من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : قرأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذه الآية فقال : أتدرون ما هي ؟ قال ابن عمر : لم يخف علي
أنها النخلة , فمنعني أن أتكلم مكان سني , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هي النخلة " .
ويجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أتي بالجمار فشرع في أكله تاليا للآية قائلا : إن
من الشجر شجرة إلى آخره . ووقع عند ابن حبان من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن , أصلها
ثابت وفرعها في السماء ؟ فذكر الحديث . وهو يؤيد رواية البزار , قال القرطبي : فوقع التشبيه بينهما
من جهة أن أصل دين المسلم ثابت , وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب , وأنه
لا يزال مستورا بدينه , وأنه ينتفع بكل ما يصدر عنه حيا وميتا , انتهى . وقال غيره : والمراد بكون فرع
المؤمن في السماء رفع عمله وقبوله , وروى البزار أيضا من طريق سفيان بن حسين عن أبي بشر
عن مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمن مثل النخلة , ما
أتاك منها نفعك " هكذا أورده مختصرا وإسناده صحيح , وقد أفصح بالمقصود بأوجز عبارة . وأما من
زعم أن موقع التشبيه بين المسلم والنخلة من جهة كون النخلة إذا قطع رأسها ماتت , أو لأنها لا تحمل
حتى تلقح , أو لأنها تموت إذا غرقت , أو لأن لطلعها رائحة مني الآدمي , أو لأنها تعشق , أو لأنها
تشرب من أعلاها , فكلها أوجه ضعيفة ; لأن جميع ذلك من المشابهات مشترك في الآدميين لا يختص
بالمسلم , وأضعف من ذلك قول من زعم أن ذلك لكونها خلقت من فضلة طين آدم فإن الحديث في ذلك لم
يثبت , والله أعلم . وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام , وتصوير المعاني لترسخ في الذهن ,
ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة . وفيه إشارة إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون
نظيره من جميع وجوهه , فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله . وفيه توقير الكبير ,
وتقديم الصغير أباه في القول , وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب . وفيه أن العالم الكبير قد
يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه ; لأن العلم مواهب , والله يؤتي فضله من يشاء . واستدل به
مالك على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها
لله , وذلك مستفاد من تمني عمر المذكور , ووجه تمني عمر رضي الله عنه ما طبع الإنسان عليه من
محبة الخير لنفسه ولولده , ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره , وليزداد من النبي صلى الله عليه
وسلم حظوة , ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم . وفيه الإشارة إلى حقارة الدنيا في
عين عمر لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم مع عظم مقدارها وغلاء ثمنها .
( فائدة ) :
قال البزار في مسنده : ولم يرو هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السياق إلا ابن عمر
وحده , ولما ذكره الترمذي قال : وفي الباب عن أبي هريرة وأشار بذلك إلى حديث مختصر لأبي هريرة
أورده عبد بن حميد في تفسيره لفظه : " مثل المؤمن مثل النخلة " , وعند الترمذي أيضا والنسائي وابن
حبان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : ( ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ) قال : " هي
النخلة " تفرد برفعه حماد بن سلمة , وقد تقدم أن في رواية مجاهد عن ابن عمر أنه كان عاشر عشرة
, فاستفدنا من مجموع ما ذكرناه أن منهم أبا بكر وعمر وابن عمر , وأبا هريرة وأنس بن مالك إن كانا
سمعا ما روياه من هذا الحديث في ذلك المجلس . والله تعالي أعلي وأعلم