الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. . . أما بعد
أحبتي
في الله: الأبناء هم عدة المستقبل ورجال الغد، وهم ثمار القلوب وعماد
الظهور، وفلذات الأكباد، حبهم مغروس في النفوس، فالمرء يرى فيهم مستقبله
المشرق وامتداده الطبيعي بعد الوفاة، وما من أحد من الناس إلا وهو يحب
الأبناء، ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الأبناء والأحفاد.
وأنبياء
الله المكرمون قد حرصوا على الذرية، وطلبوا من المولى سبحانه وتعالى أن
يرزقهم الأبناء الصالحين الذين يكونون القدوة والأسوة لمن بعدهم، فهذا
إبراهيم عليه السلام يسأل ربه الذرية الصالحة قائلاً:
رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ [الصافات: 100]. وهذا زكريا عليه السلام يناجي ربه، ويسأله الولد ليكون وارثاً للنبوة من بعده قائلاً:
فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً [مريم:5-6].
والقرآن الكريم حينما تحدث عن صفات عباد الله الصالحين ذكر أن من دعائهم لربهم أن يهبهم الله الولد الصالح، قال تعالى:
وَٱلَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوٰجِنَا وَذُرّيَّـٰتِنَا
قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
ولما
كان للأبناء هذا الدور في الحياة، فقد حرص الإسلام أشد الحرص على بناء
الأبناء البناء السليم الذي يُقوم سلوكهم وأخلاقهم، وينشئهم النشأة الصالحة
التي تعتمد على التربية والتوجيه وغرس الإيمان في القلوب وإقامة الدعائم
الأخلاقية والقيم الاجتماعية في قلوب الأبناء.
وقد أناط مسئولية التربية والتوجيه إلى الوالدين، وخص الأب بعظيم المسئولية في هذا وجعل
القوامة بيده ليحسن التصرف والتربية، وإن من مقتضى هذه القوامة أن يحسن
تربية الأبناء التربية الإسلامية التي تقربهم إلى الله زلفى، وأن يحرص في
ذلك على إقامة العدل بين الأبناء، فإنه إن أقامه بينهم فقد أحسن لهم،
وأعانهم على البر، وحقق بينهم المحبة والأخوة.
وإن
اندفع مع هواه واتبع عاطفته أو تأثر بأي عامل من عوامل التأثير، فمال إلى
تفضيل بعض الأبناء على بعض بتفضيل الذكور على الإناث، أو الصغار على
الكبار، أو أولاد الجديدة على القديمة، أو غير ذلك من ألوان التفريق، فقد
أوقع نفسه في الظلم، وساق بها إلى الهلكة، وساهم في تصدع بناء الأسرة وتفكك
أعضائها وإيجاد العداوة والبغضاء بين الأبناء، فأدى ذلك إلى عقوقه في
الحياة وبعد الممات، وأدى ذلك إلى ظهور العدوان وكثرة الخصام والشقاق بين
الإخوان.
وفي قصة يوسف مع إخوته عبرة وعظة لأولي الألباب
لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَـٰتٌ لّلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلٰلٍ مُّبِينٍ ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَـٰلِحِينَ [يوسف:7-9].
إن
مثل هذه التصرفات تجعل الأسرة في صراع دائم وتفكك مستمر، والسبب في ذلك
عدم العدل بين الأولاد، واستبدال ذلك بالظلم الذي نهى الشارع عنه، إن بعض
الرجال من الآباء الذين شذت طباعهم، وغلظت أكبادهم، وجمدت عواطفهم وغاب
عنهم ما أمر الله به من العدل يقومون بحرمان البنات من المال وإيثار الذكور
من الرجال بذلك، والحجة لهم في هذا أن الذكور امتداد لهم، فهم أولى بحمل
الراية من بعدهم، فهم أولى بالمال من البنات، بل إن البنت إنما تأخذ مالها
لتعطيه لزوجها الذي هو في نظر بعض الآباء غريب عن الأسرة، ليس له في المال
من نصيب، وهذا الفعل من الظلم الذي نهى الله عنه، فإن الله سبحانه قد أعطى
كل ذي حق حقه، فالواجب على الآباء تحقيق أمر الله، وترك الظلم الذي يقع على
الأبناء والإنسان لا يدري أين الخير في الذكور أم في الإناث، ومولانا
يقول:
ءابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً [النساء:11].
والحق
أننا سمعنا من بعض الآباء الذين فعلوا ببناتهم مثل هذا، فخصوا الذكر
بالأموال، ونال البنات القليل جداً من المال، ثم كانت عاقبة أمرهم خسراً،
نعوذ بالله من الخزي والندامة في الدنيا وفي دار المقامة.
إخوة
الإسلام: إذا كان الواحد منا يحب بعض أولاده أكثر من الآخرين فلا يجوز له
أن يظهر هذه المحبة أمام أبنائه، فإن هذا يقتلهم، ويجعل الحقد في قلوبهم،
ويزرع البغضاء في نفوسهم، فالأولى أن يجعل حبه هذا في قلبه حتى تسلم أخوة
الأبناء من التصدع، بل من الواجب عليه لو قبل أحد أبنائه، وغيره ناظر إليه،
أن يقبل الآخر حتى يكونوا في البر سواء، فالواجب علينا – إخوة الإسلام –
أن نعدل بين أبنائنا في القسمة، وأن نجعلهم سواء في العطية والهبة، وأن
نتركهم من بعدنا إخواناً متحابين، يعاون قويهم ضعيفهم، ويساعد قادرهم
عاجزهم، ويشد ذكرهم أزر أنثاهم دون أن يكون هناك شقاق أو خلاف أو عداوة
بينهم.
والشارع
الحكيم حث على هذه المساواة في المعاملة بين الأبناء، واعتبر الخروج عن
ذلك ظلماً وجوراً، لا يجوز لأبناء الإسلام أن يقعوا فيه، أخرج النسائي:
(3681) بسنده عن النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه أن أمه ابنة رواحة
سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها فالتوى بها سنة، ثم بدا له فوهبها
له، فقالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله
، فقال: يا رسول الله، إن أم هذا ابنة رواحه قاتلتني على هذا الذي وهبت له، فقال رسول الله
:
((يا بشير، ألك ولد سوى هذا؟)) قال: نعم، فقال رسول الله
:
((أفكلهم وهبت لهم مثل الذي وهبت لابنك هذا))؟ قال: لا، قال رسول الله
:
((فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جور)). وفي رواية (3680):
((فلا أشهد على شيء، أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء))؟ قال: بلى، قال:
((فلا إذاً)).
لقد عد رسول الله
تلك العطية التي لم يتساوى فيها جميع الأولاد ظلماً، وكفى بالظلم بشاعة، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
فاتقوا
الله عباد الله، واعلموا أن العدل بين الأولاد مما أمرنا به شرعنا الحنيف،
فاسلكوا طريق ربكم تستقم لكم الحياة، ويكونوا لكم في البر سواء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَلْيَخْشَ
ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـٰفاً خَافُواْ
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].
خرج مسلم: (1827) بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال رسول الله
:
((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)).
إنه بيان من الرحمة المهداة
يستنهض همم الرجال الصادقين السائرين إلى رضا الله ومرضاته، والراجين
الفوز بالجنان، أن يحرصوا على العدل في كل أمر يوكل إليهم، ومن ذلك أمر
أهليهم حتى يفوزوا بهذا الذي وعد به النبي
من الجلوس على منابر عند الحق سبحانه في حضرته العلية.
فاتقوا
الله عباد الله، وبادروا إلى إقامة العدل في أهليكم، وبين أبنائكم
وبناتكم، واعلموا أن الظلم ظلمات، وأن العدل هو أساس النجاح والفلاح،
فالبدار البدار إلى ذلك.
بارك الله لي ولكم في القرآن
العظيم، وسلك بي وبكم طريق عباده الصالحين، اللهم اجعلنا ممن يستمع القول
فيتبع أحسنه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل
ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم