عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله
يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول:
((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إنس
أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا
أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر –
وهو كذا، ويسمي حاجته – خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، أو قال: عاجل
أمري وآجله - فأقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا
الأمر – وهو كذا، ويسمي حاجته – شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال
:في عاجل أمري وآجله – فأصرفه عني وأصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان،
ثم رضّني به)).
الاستخارة: طلب بيان خير الأمرين من الفعل أو الترك.
وكانوا
في الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا، أو غير ذلك
مما لا يعرف وجه الخير فيه، أتى أحد سدنة البيت وطلب منه أن يخرج له
الأزلام، وهي قداح ثلاث: مكتوب على أحدهما افعل، وعلى الثاني لا تفعل،
والثلاث غفل ليس عليه شيء. فيدير هذه الأزلام ويحركها، ثم يأخذ واحدا منها،
فإن خرج المكتوب عليه افعل استبشر خيرا ومضى، وإن خرج لا تفعل استبشر شرا
وقعد، وإن خرج الغفل الذي لا كتابة عليه أعاد الاستقسام.
وقد ثبت في الصحيح أن سراقة بن مالك لما خرج في طلب النبي
وأبي بكر وهما مهاجران إلى المدينة قال: فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم
لا؟ فخرج الذي أكره لا تضرهم، قال: فعصيت الأزلام واتبعتهم، ثم استقسم بها
ثانية وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره: لا تضرهم، وكان سراقة لم يسلم بعد.
وثبت في الصحيح أن النبي
لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها وفي أيديهما الأزلام، فقال
:
((قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا)).
فلما جاء الإسلام حرم الاستقسام بالأزلام، وعده فسقا، قال تعالى:
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة
والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على
النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق [المائدة:3].
وقال النبي
:
((لن يلج الدرجات العلى من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر تطيرا)).
وإنما
حرم الإسلام الاستقسام بالأزلام لأنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن
إليها إلا من كان ضعيف العقل سيء الرأي، يفعل ما يفعل من غير بينة ولا
بصيرة، ويترك ما يترك من غير بينة ولا بصيرة، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة
والسدنة، ويتفاءل ويتشاؤم بما لا فأل فيه ولا شؤم، فلا غرو أن يبطل ذلك دين
العقل والبصيرة والبرهان، كما أبطل التطير والكهانة والعيافة والعرافة
وسائر خرافات الجاهلية.
إلا
أنه مع الأسف ما زال في المسلمين من يستقسم بالأزلام أو بما في معناها،
ويسمونها بغير اسمها، كمن يستقسم بالسبحة ويسمى هذا الاستقسام استخارة،
وذلك بأن يعدوا حبات السبحة واحدة واحدة وهم يقولون: افعل لا تفعل، افعل لا
تفعل، حتى تنتهي السبحة، فيكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة، فإن كانت آخر
حبة مع قوله: افعل، فعل، وإن كانت مع قوله: لا تفعل، لم يفعل.
ومنه من يأخذ الفأل من القرآن الكريم، وطريقتهم في ذلك: أن يأتي أحدهم بالمصحف مغلقا، ثم يقرأ:
قل هو الله أحد سبع مرات، ثم يقول ثلاث مرات: اللهم بكتابك تفاءلت، وعليك توكلت، اللهم
أرني في كتابك ما هو الكتوم من سرك المكنون في غيبك. ثم يفتح المصحف
ويتفاءل بأول الصفحة.
ومنهم
من يأخذ الفأل من ورق الكوتشينة، ومنهم من يأخذه من زهر الطاولة إلى آخر
ذلك من عادات الجاهلية التي حرمها الإسلام واستحلها المسلمون، وسموها بغير
اسمها.
ولما
كان الإنسان يتعرض ولابد لأمور يخفى عليه الخير والشر فيها، فيتردد ويحتار
فإن الإسلام وقد حرم الاستقسام بالأزلام أرشد المسلم إلى الفرار إلى الله
بالدعاء والسؤال، ليزيل الحيرة، وييسر له الخيرة، ويشرح صدره لها.
وكان النبي
يهتم بتعليم المسلمين الاستخارة كما يهتم بتعليمهم السورة من القرآن، مما يدل على شدة الاعتناء بهذا الدعاء.
كما
كان يرشدهم إلى الاستخارة في الأمور كلها، دقّها وجلّها، وفي هذا دليل على
أنه لا يجوز للمرء أن يحتقر أمرا أو يستصغره، فيترك الاستخارة فيه، فيكون
في الإقدام عليه ضرر عظيم، أو يكون في تركه خير كثير.
كان
يقول:
((إذا هم أحدكم بالأمر)) والهم أول وارد يخطر على القلب، وإنما أرشد النبي
إلى الاستخارة عند الهم ليكون القلب مجردا من الهوى، مسلما حقيقة أمره
لله، يوجهه لما يعلمه له من الخير. بخلاف الاستخارة بعد العزم، فربما فعل
بعد الاستخارة ما استقر في قلبه وركن إليه، وهو يظن أنه يفعل نتيجة
الاستخارة.
وقوله
:
((فليركع ركعتين من غير الفريضة)) فيه دليل على أن للاستخارة صلاة مستقلة عن الفريضة ورواتبها.
وقوله
:
((ثم ليقل)) أي بعد الانصراف من الصلاة، أو بعد التشهد وقبل السلام، وهو أولى، لأن النبي
إنما كان يدعو في الصلاة قبل السلام، وما كان يدعو بعد الانصراف من
الصلاة. وكيف يترك سؤال الله ودعاءه وهو بين يديه يناجيه، حتى إذا انصرف من
بين يديه أقبل يسأله ويدعوه!!
فالأولى أن يكون دعاء الاستخارة بعد التشهد وقبل السلام.
والحكمة
في تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري
الدنيا والآخرة، وذلك يحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح
من الصلاة، لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه والافتقار إليه حالا
ومآلا.
وقوله:
((اللهم إني أستخيرك بعلمك)) أي أطلب منك بيان خير الأمرين من الفعل والترك بسبب علمك، فإنك تعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.
والمعنى:
أطلب منك أن تشرح صدري لخير الأمرين، بسبب علمك بكيفيات الأمور وجزئياتها
وكلياتها، إذ لا يحيط بخير الأمرين على الحقيقة إلا من هو كذلك، كما قال
تعالى:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216].
وقوله:
((وأستقدرك بقدرتك)) أي: أطلب منك أن تجعل لي القدرة عليه، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك.
وقوله:
((وأسألك من فضلك العظيم)) فيه دليل على احتياج الخلق كلهم إلى الله عز وجل وافتقارهم جميعا إلى فضله
وإحسانه، مهما عظموا، وأن كل عطاء الرب عز وجل فضل، وأنه ليس لأحد عليه حق
في جلب نعمة، ولا في رفع نقمة، فإن أعطى فمن فضله، وإن منع فمن عدله.
وقوله:
((فإنك تقدر ولا أقدر)) معناه: فإنك يا رب تقدر بالقدرة الكاملة على كل شيء ممكن تعلقت به إرادتك، ولا أقدر أنا على شيء إلا بقدرتك وحولك وقوتك.
وقوله:
((وتعلم ولا أعلم)) معناه: إنك يا رب تعلم بالعلم المحيط بجميع الأشياء، خيرها وشرها، ولا أعلم أنا شيئا منه إلا بإعلامك وإلهامك.
وفي ذلك إشارة إلى أن العلم والقدرة لله وحده، وأنه ليس للعبد من ذلك إلا ما قدره الله له.
((اللهم إن كنتم تعلم أن هذا الأمر وهو كذا، ويسمى حاجته)) بعينها، من سفر أو نكاح، أو طلاق، أو بيع، أو شراء، أو نحو ذلك.
((خير لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري وعاجله)) لأن الأمر قد يكون خيرا في الدنيا دون الدين، أو في العاجل دون الآجل، فسأل ربه أن يجمع له خيري الدين والدنيا، والعاجل والآجل.
((فاقدره لي)) أي اجعله مقدورا لي،
((ويسره لي، ثم بارك لي فيه)) أي أكثر الخير والبركة فيما أقدرتني عليه ويسرته لي.
((وإن كنت تعلم أن هذا الأمر وهو كذا، ويسمى حاجته))، بعينها
((شر لي في ديني ودنياي، وعاقبة أمري وعاجله، فاصرفه عني واصرفني عنه)) فلم يكتف بسؤال صرف أحد الأمرين، وإنما طلب الأكمل من وجوه انصراف ما ليس
فيه خير عنه. لأنه قدر يصرف الله المستخير عن ذلك الأمر بأن ينقطع طلبه له،
وذلك الأمر يطلبه، فربما أدركه، وقد يصرف الله عن المستخير ذلك الأمر، ولا
يصرف قلب العبد عنه، فيبقى القلب متشوفا إلى حصوله، متطلعا إليه، متعلقا
به، فلا يهدأ له بال، ولا يطمئن له خاطر، فإذا صرف كلا منهما عن الآخر كان
ذلك أهدأ للبال والخاطر. ثم سأل ربه
((واقدر لي الخير حيث كان)) بعد أن تصرف عني مالا خير فيه، وتصرفني عنه،
((ثم رضني)) بما قدّرت لي وقسمت.
وهذا الحديث دليل على كمال شفقة النبي
ورحمته بأمته، وحرصه على تعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
وفيه
دليل على أنه يجب على العبد أن يرد الأمور كلها إلى الله، وأن يبرأ من حول
نفسه وقوتها، وأن يستعين بحول الله وقوته، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم.
وما أحسن أن يترك العبد الاختيار لنفسه وتدبير أمرها، إلى من له الاختيار والتدبير.
وما أجمل أن يستشعر العبد أن تدبير الله له خير من تدبيره لنفسه، وأن اختيار الله له أحسن من اختياره لنفسه.
وما
أجمل أن يستشعر العبد أن ربه أنصح له من نفسه، وأرحم به من نفسه، وأبر به
من نفسه، فيطرح نفسه بين يدي ربه انطراح عبد مملوك ضعيف، بين يدي ملك عزيز
قاهر، له التصرف في عبده بكل ما يشاء، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من
الوجوه.
فهنالك يطيب عيشه، وينعم قلبه، ويعظم سروره وفرحه، ويذهب همّه وغمّه.
فيا
إخوة الإسلام: إن في الاستخارة في الأمور كلها خيرا عظيما، فلا تتركوا
الاستخارة في أموركم كلها، ولا يقدمن أحدكم على فعل حتى يستخير ربه، ولا
يتركن أمرا حتى يستخير ربه.
ولكن ما هي آثار الاستخارة؟ وهل لها تعلّق بالرؤى والأحلام؟
الجواب:
أنه لم يرد في السنة شيء من ذلك، ، فعلى العبد إذا استخار ربه أن ينظر في
صدره، فإن وجد انشراحا في صدره لهذا الأمر فليتوكل على الله، وإن وجد ضيقا
وانقباضا، أو لم يجد طلبا في صدره لهذا الأمر، فليتركه.
وإن
لم يجد انشراحا ولا انقباضا، فليأخذ في الأسباب فإن يكن في الأمر خير
فستيسر أموره، وتذلل له الصعاب دونه، وإن تعسرت الأمور، وأغلقت الأبواب،
فليس في ذلك الأمر خير.
اللهم رضنا بما قسمت لنا حتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت لنا