الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله
عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله
:
((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته)).
يقول الله تعالى:
إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين [يس:12].
فذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أشياء: أنه يحي الموتى. وأنه يكتب ما قدّموا في دار الدنيا. وأنه يكتب آثارهم، وأنه أحصى كل شيء في إمام مبين أي كتاب بيّن واضح.
أما الأول: وهو كونه يحي الموتى بالبعث فقد جاء في آيات كثيرة، وأقسم عليه الله بربوبيته لمحمد
، وأمر نبيه أن يقسم عليه: قال تعالى:
ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم [مريم:66-68].
وقال تعالى:
زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن. . [التغابن:7].
وقال تعالى:
وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم. . [سبأ:3].
وقال تعالى:
ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق. . [يونس:53].
وأما الثاني: وهو كونه سبحانه يكتب ما قدموا في دار الدنيا، فقد جاء في آيات كثيرة: قال تعالى:
أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [الزخرف:79-80].
وقال تعالى:
هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [الجاثية:29].
وأما الثالث: وهو كونه سبحانه يكتب آثارهم: فالآثار تشمل الحسية وهي الخطى، والمعنوية، وهي ما يتركونه في الناس من أثر خير أو شر. وكلها تكتب.
أما الدليل على كتابة الآثار الحسية فقوله تعالى في حق الغزاة:
ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم [التوبة:121].
فهذا يستلزم أن تكتب لهم خطاهم التي قطعوا بها الوادي في غزوهم.
ويدل عليه أيضا قوله
لبني سلمة وقد بلغه أنهم يريدون أن ينتقلوا قرب المسجد، فقال لهم:
((دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم)) أي ألزموا دياركم البعيدة تكتب آثاركم أي خطاكم إلى المسجد، كل خطوة ترفع الماشي درجة، وتحط عنه خطيئة.
وأما الدليل على كتابة الآثار المعنوية فقوله تعالى:
ليحلموا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم [النحل:25].
وقوله
:
((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)).
وأما الرابع: وهو كونه سبحانه أحصى كل شيء في كتاب بين واضح فقد دل عليه قوله تعالى:
وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر [القمر:52-53].
وقوله تعالى:
ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [الكهف:49].
وهكذا أفادت هذه الآية أن الله سبحانه يحصي على العباد ما باشروه بأنفسهم من أعمال حال حياتهم، وما تركوه في الناس من أثر خير أو شر بعد مماتهم، وأنه سبحانه يسجّل ذلك في كتاب مكنون، ثم يجزي كل عامل بعمله يوم يلقاه.
والنبي
وهو الرؤوف الرحيم بأمته يرشدهم في هذا الحديث إلى أنواع من وجوه البر والخير التي يلحقهم أجرها بعد موتهم.
وأول هذه الأنواع: علم علّمه ونشره:
إن الإسلام حث على العلم ورغّب فيه، وجعل طلبه فرضا على التعيين أو الكفاية، وهذا يقتضي أن يكون هناك علماء يعلمون، وطلاب علم يتعلمون.
وقد أخذ الله الميثاق على العلماء أن يعلّموا العلم ولا يكتموه، قال تعالى:
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه [آل عمران:187].
وتوعّد الذين يكتمون فقال:
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم [البقرة:159-160].
ولقد أرشد الله تعالى العلماء إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه، فقال سبحانه:
ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [آل عمران:79].
والرباني هو من تعلم العلم، وعمل به في نفسه، وعلّمه غيره، فمن تعلّم وعمل وعلّم فذلك العالم الرباني الذي يدعي في ملكوت السموات عظيما.
ومن تعلّم العلم ولم يعمل به في نفسه، ولم يعلّمه غيره، فذلك مثل السوء الذي قال الله فيه:
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث [الأعراف:175-176].
ولقد كان
يرغب في نشر العلم وتعليمه، فكان يقول:
((بلغوا عني ولو آية))،
((نضّر الله أمرا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلّغ أوعى من سامع )).
((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)).
((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالما أو متعلما)).
((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلّمي الناس والخير)).
فيا شباب الإسلام، تعلّموا وعلّموا، فإن هذا والله جهاد عظيم، قال الله تعالى:
وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [التوبة:122].
وقال معاذ بن جبل
: تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة.
والله – يا طالب العلم –
((لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم))، وهنيئا لك تموت ويظلّ أجر ما قدّمت من التعليم، وما أخرت من العلم، يأتيك إلى يوم القيامة.
النوع الثاني: ولد صالح تركه، وهذا الإطلاق يفيد انتفاع الوالد بولده الصالح سواء دعا له أم لا. كمن غرس شجرة فأكل منها الناس، فإنه يحصل له بنفس الأكل ثواب، سواء دعا له من أكل أم لم يدع. فالوالد ينتفع بصلاح ولده مطلقا، وكل عمل صالح يعمله الولد فلأبويه من الأجر مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيء، لأن الولد من سعي أبيه وكسبه، كما قال النبي
:
((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه))، والله عز وجل يقول:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [النجم:39].
وهذا يوجب على الآباء أن يجتهدوا في تربية أبنائهم، وإصلاح أحوالهم، حتى ينتفعوا بصلاحهم، وإلا فمجرد وجود الولد بعد الوالد لا ينفعه في آخرته، فإن لم يكن الولد صالحا لم ينفع أباه ولم يضره، لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، لكن إن صلح انتفع أبوه بصلاحه، وذلك فضل الله، والأول عدله.
فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم، واتقوا الله في أولادكم:
يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6].
و
((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع))، وتوجهوا إلى الله بالدعاء أن يصلحكم ويصلح لكم أولادكم، وقولوا:
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما [الفرقان:74].
النوع الثالث: مصحف ورثّه: فمن اشترى مصحفا ووضعه في البيت ليقرأ فيه أولاده أو وضعه في المسجد ووقفه لله تعالى، فإنه يأتيه من ثواب ذلك المصحف بعد موته ويلحق بالمصحف كتب العلم الشرعي، ككتب العقيدة الصحيحة، والتفسير، والحديث، والفقه، ونحوه ذلك من العلوم الشرعية، إذا اشترى الرجل كتبا منها ووضعها في بيته ليقرأ فيها أولاده، أو وضعها في المسجد ووقفها لله تعالى، فإنه لا يزال يأتيه من ثواب هذه الكتب إلى يوم القيامة.
فاحرصوا – رحمكم الله – على إنشاء مكتبات في بيوتكم وفي مساجدكم، وساهموا فيها بشراء المصاحف والكتب، فإنها مما ينفعكم بعد موتكم.
النوع الرابع: مسجد بناه، إن الله تعالى اتخذ في الأرض بيوتا لعبادته:
يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [النور:36-37].
وقد جعل الله تعالى عمارة المساجد عنوان الإيمان، فقال سبحانه:
إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله [التوبة:18].
ولقد كان النبي
يرغّب في بناء المساجد فيقول:
((من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)).
فجودوا – رحمكم الله – على بيوت الله ولا تبخلوا، فما تضعونه في بيوت الله من أموالكم يأتيكم ثوابه بعد موتكم، وتجدون بره وثوابه يوم الدين:
يوم لا ينفع مال ولا بنون [الشعراء:88].
ويلحق بالمساجد المدارس ونحوها مما يعود نفعه على المسلمين.
النوع الخامس: بيت لابن السبيل بناه، فمن بنى بيتا ووقفه على ابن السبيل يأوي إليه وينزل فيه في سفره فإنه يأتيه من ثواب ذلك بعد موته.
ومعنى ذلك أن الإسلام يرغب في بناء بيوت المسافرين – التي تعرف بالفنادق – تطوعا، لينزل فيها المسافرون مجانا، لأن الغالب على المسافرين الحاجة وقلة المال، ولذا كثر في القرآن الكريم الوصية بابن السبيل.
النوع السادس: نهر أجراه، إن قيمة الماء في الحياة لا تخفى على أحد، فقد جعل الله من الماء كل شيء حي.
والإسلام يرغب في العمل على توفير الماء للمحتاجين فمن أجرى نهرا يشرب منه الناس ويستقوا، فإن له الجنة، كما في الحديث عن النبي
أنه قال:
((من حفر رومة فله الجنة)). ولما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكان لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي
:
((تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله! ليس لي ولا لعيالي غيرها. فبلغ ذلك عثمان بن عفان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم ثم أتى النبي فقال: أتجعل لي فيه ما جعلته له؟ فقال: نعم، قلل: قد جعلتها في المسلمين)).
فمن استطاع منكم أن يجري نهرا، أو يحفر بئرا – ولا سيما في الصحراء – ويجعلها للمسلمين فليفعل وله مثل ذلك في الجنة.
النوع السابع: صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، حالة كونه يخشى الفقر ويأمل الغنى، فإن هذه الصدقة يأتيه من ثوابها بعد موته.
هذه سبعة أنواع من أعمال الخير التي ينتفع بها الميت.
وقد يسأل سائل: عن الصلاة عن الميت والصوم عنه والحج، وقراءة القرآن وإهداء ثوابها إليه.
والجواب: أنه لا يصلي أحد عن أحد، فمن مات وعليه صلاة لا يجزئه أن يصليها عنه غيره، لأن الصلاة من الفروض العينية التي لا يقوم أحد مقام أحد فيها، وكذلك صوم رمضان، لا يصوم أحد عن أحد، فمن مات وعليه صوم من رمضان أطعم عنه عن كل يوم مسكينا، ولا يجوز أن يصوموا عنه. لكن إن مات وعليه صوم نذر فالنذر دين، ولما كان أهل الميت يقضون دينه فدين الله أحق بالقضاء، فمن مات وعليه صوم نذر صام عنه وليّه. أما الحج فيجوز أن يحج الولد عن أبيه بعد أن يحج عن نفسه. أما قراءة القرآن وإهداء ثوابها للأموات فإن ذلك لا ينفعهم، لأنه ليس من سعيهم، والله تعالى يقول:
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى لكن الوالد ينتفع بقراءة ولده من غير أن يهديه ثوابها ولا يهبه له، لأنه كما سبق الولد من سعي أبيه، فكل عمل صالح يعمله الولد فلأبويه من الأجر مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيء. والله تعالى أعلم