بل انظر - أيها الزوج - إلى هذا الموقف الذي يبيِّن كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم -يُمازح ويتسامر مع أهله:
ففي كتاب "عشرة النساء"؛ للنسائي - بسند صحيح - من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان عندي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسَوْدة، فصنَعت خزيرًا - لحم يقطع، ويُصب عليه ماء كثير، فإذا نضِج ذُرَّ عليه الدقيق - فجِئت به، فقلت لسَوْدة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلين أو لأُلطِّخن وجهك، فقالت: ما أنا بباغية، فأخذت شيئًا من الصَّحْفَة، فلطَّخت به وجهها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بيني وبينها، فخفَض لها رسول الله رُكبتيه لتَستَقِيد مني، فتناولت من الصَّحْفَة شيئًا، فمسَحت به وجهي، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك".
وروى الحسن بن سفيان عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أفكهِ الناس مع نسائه".
فهيَّا أخي، تحبَّب إلى زوجتك؛ فإن الحب بالتحبُّب، فتحبَّب إليها بالكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة، تجد ثمار كل ذلك سعادةً تملأ قلبك.
23- أن يستشيرها، ويحترم رأيها:
فمن حق الزوجة على زوجها أن يشاركها في المشورة، ويأخذ رأيها خاصة في الأمور التي تخص الزوجة والأولاد، وعليه أن يبادلها الآراء ويناقشها في ذلك؛ حتى يخرج بالفائدة، فإذا قالت برأي صواب، فلا يتردَّد أن يأخذ به مع شكرها على ذلك، ولا يلتفت إلى الذين يتشدقون ويحقرون رأي المرأة، ولا يأخذون بمشاورتهن ويَحذرون من ذلك؛ اعتمادًا على العادات الجاهلية، أو أحاديث موضوعة؛ مثل: ((شاوروهن وخالفوهن))، وحديث: ((طاعة المرأة ندامة))؛ وهما حديثان لا أصل لهما.
بل هذا على عكس ما كان عليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يأخذ برأي أزواجه كما حدث يوم الحديبية - والحديث في صحيح البخاري - فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة أن يقوموا وينحروا ثم يَحلقوا، فلم يقم أحد؛ حتى طلب منهم النبي- رضي اللهعنه - ذلك ثلاث مرات، ومع ذلك لم يستجيبوا حتى دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة، فذكر لها ما لقِي من الناس، فقالت: يا نبي الله، أتحب ذلك؟ اخرج، ولا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تَنحر بُدنك، وتدعو حالقك، فيَحلقك، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا".
فانظر أخي - رحمك الله - كيف نجا الصحابة من هلاك المخالفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - لرأي ومشورة أم سلَمة.
فعندما لا نتجاهل المرأة ونشاركها في أخذ القرار؛ فإن هذا يشعرها بقيمتها وكِيانها لاحترام زوجها.
فالرجل الحكيم يستطيع أن يُحيل بيته إلى أجمل بستان، وامرأته إلى أعظم إنسان، ونجاح بيت الزوجية - في الغالب - مسؤولية الرجل، وفشَله مسؤوليته أيضًا.
فالشرع الحكيم يقدِّر تفكير المرأة وعقلها حتى في الأزمات، وقد مر بنا ما حدث يوم الحديبية، وما كان من مشورة أم سلمة، وكذلك لما نزَل الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم -ومشاورة خديجة، وذَهابها بالنبي إلى وَرَقة بن نَوْفَل.
وانظر إلى قوله - تعالى - حيث قال رب العزة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28 - 29].
وذلك بسبب أنهن سألْنه زيادة النفقة، والإغراق في العيش، فأمره الله - تعالى - بتخييرهن، ولم يكلفه بقَهْرهن على أحد الاختيارين، بل لما أراد أبو بكر وعمر أن يَضربا ابنتيهما: عائشة وحفصة لهذا، منعهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى يكون رأي الواحدة منهن عن قناعة واختيار، لا عن تعسُّف وإجبار.
تنبيه:
يُستحب مشورة المرأة في تزويج ابنتها، ودليل ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في قصة زواج جُلَيْبِيب - رضي الله عنه - وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خَطَب على جُلَيْبِيب امرأةً من الأنصار إلى أبيها، فقال: حتى استأمر أمَّها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فنَعَم إذًا))، فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك لها، فقالت: لاها الله
[9]، إذًا ما وجد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا جُلَيْبيبًا، وقد منعناها من فلان وفلان".
ومما يشير إلى استحباب مشورة المرأة في زواج ابنتها: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود - بسند فيه مقال - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آمِروا النساء في بناتهن))؛ السلسلة الضعيفة (1486).
قال ابن الأثير - رحمه الله - كما في "جامع الأصول" (11/ 465) - في شرح الحديث السابق، واستحباب مشورة الأم في زواج ابنتها -:
"وهو أمر استحباب من جهة استطابة أنفسهن، وحُسن العشرة معهن؛ لأن في ذلك بقاء الصحبة بين البنت وزوجها، إذا كان برضا الأم، وخوفًا من وقوع الوحشة بينهما إذا لم يكن برضاها؛ إذ البنات إلى الأمهات أميلُ، وفي سماع قولهن أرغب، ولأن المرأة ربما علِمت من حال بنتها - الخفي عن أبيها - أمرًا لا يصلح معه النكاح؛ من علة تكون بها، أو آفة تمنع من وفاء حقوق النكاح.
وعلى نحو هذا يتأول قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُزوَّج البكر إلا بإذنها، وإذنها سكوتها))؛ وذلك أنها قد تستحيي أن تُفصح بالإذن، وأن تُظهر الرغبة في النكاح، فيستدل بسكوتها على سلامتها من آفة تمنع النكاح، أو سبب لا يصلح معه النكاح"؛ ا.هـ.
24- أن يُعلمها أمور دينها:
أخرج البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمالك بن الحويرث ومَن معه: ((ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلِّموهم، ومُروهم)).
فيجب على الزوج أن يعلِّم زوجته أمور دينها: من أصول الدين، وأركان الإيمان، وأركان الإسلام، وأحكام العبادات، وخاصة الصلاة، فإن لم يكن الزوج أهلاً للعلم والتعلُّم، فعليه أن يأذَن لها في حضور دروس العلم بالمساجد والمجالس العلمية؛ حتى تفهمَ دينها، ومما يعود عليها وعلى الزوج بالنفع التام.
قال الضحَّاك ومقاتل: "حق على المسلم أن يعلِّم أهله - من قرابته وإمائه وعبيده - ما فرَض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه".
والزوج إذا كان محبًّا لزوجته، فهو يبذل لها كل ما يَملِك من جهد ونفس ومالٍ؛ حتى يَقِيَها المصائب والمتاعب، وليس هناك مصيبة أفظع وأشنع من دخول المرأة النار، أو عذابها في جهنم، وفراقها لزوجها في الآخرة؛ ولذلك كان على الرجل العاقل وقاية زوجته من نار الآخرة، وذلك بتعليمها أمور دينها؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6].
قال علي - رضي الله عنه - في هذه الآية: "علِّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدِّبوهم".
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأْمُروا أهليكم بالذكر؛ ليُنجيكم الله من النار".
قال قتادة - رحمه الله - كما عند الطبري في "تفسيره" (28/ 166): "تأمرهم بطاعة الله - تعالى - وتنهاهم عن معصيته، وتقوم عليهم بأمر الله - تعالى - وتأمرهم به، وتساعدهم عليه، فإذا رأيت معصيةً، قرَعتهم وزجَرتهم".
قال الأُلوسي في هذه الآية: "واستدل بها على أنه يجب على الرجل فعْل ما يجب من الفرائض وتعليمها لهؤلاء - أي: أهله - وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس؛ لأن الولد بعض من أبيه".
وقال مجاهد: "اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله".
25- علمها، تَسعَد وتفوز بالأجر:
وإذا تعلمت المرأة أمر دينها؛ فإن ذلك سيعود بالنفع عليها وعلى زوجها من حُسن معاشرته، بعد أن فهِمت دينها وما لها وما عليها، ثم يعود بالنفع على الأولاد: من حسن تعهُّد وتربية، وتعليمهم لدينهم، وكل ذلك نتيجة حسن تعهُّد الزوج لزوجته بالتعلم والتوجيه والإرشاد، فهو له ما له من حسن الثواب والأجر عند الله؛ فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أيما رجل كانت عنده وليدة، فعلَّمها فأحسنَ تعليمها، وأدَّبها فأحسن تأديبها، ثم أعتَقها وتزوَّجها، فله أجران)).
قال ابن حجر - رحمه الله - كما في "فتح الباري" (1/ 190):
"مطابقة الحديث في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس؛ إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكد من الاعتناء بالإماء".
قال الغزَّالي - رحمه الله - في "الإحياء" (4/ 730):
"يجب على المتزوج أن يتعلم من علم الحيض وأحكامه، ويعلم زوجته أحكام الصلاة وغيرها من العبادات؛ فإنه أمر أن يَقيها النار، بقوله - تعالى -: ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6].
فعليه أن يُلقِّنها اعتقاد أهل السنة، ويُزيل عن قلبها كل بدعة، ويخوِّفها في الله إن تساهلت في أمر دينها، ويعلمها من أحكام الحيض والاستحاضة ما تحتاج إليه، فإن كان الزوج قائمًا بتعليمها، فليس لها الخروج، فإن لم يكن ذلك، فلها الخروج للسؤال، بل عليها ذلك، ويعصي الرجل بمنْعها، وإذا أهملت المرأة حكمًا من أحكام الحيض والاستحاضة، ولم يعلمها هو، ولم يسمح لها بالخروج - أثِمت وشارَكها هو في الإثم"؛ ا.هـ بتصرف واختصار.
26- أن يأذن لها في الخروج للمساجد وزيارة أهلها:
فلا يمنع الرجل زوجته من الخروج إلى الجُمَع أو حلقات العلم في المساجد، ولكن ذلك مشروط بإذن الزوج وعدم التبرُّج، وعلى الزوج ألا يمنع زوجته من الخروج إلى المسجد؛ فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تَمنعوا إماء الله المساجد)).
وكان النساء يخرجنَ إلى المساجد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يخصِّص لهن يومًا في الأسبوع؛ كي يعلِّمهن أمور دينهن، وعلى الزوج أن يأذَن لزوجته بالخروج لقضاء حوائجها؛ وذلك لما أخرجه البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "خرجت سَودة بنت زَمعة ليلاً، فرآها عمر فعرَفها، فقال: إنك والله - يا سودة - ما تخفين علينا، فرجَعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له وهو في حجري يتعشَّى، وإن في يده لعرقًا، فأُنزل عليه - الوحي - فرُفِع عنه، وهو يقول: ((قد أذِن لكن أن تَخرجنَ لحوائجكنَّ)).
فهذا إذن عام من الله - سبحانه وتعالى - للنساء في أن يخرجن لحوائجهن، ولكن على المرأة أن تستأذن زوجها في خروجها لحاجتها، وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأزواج بالإذن لهن، ونهى عن منْعهن من حضور الصلاة في المساجد، أو مجالس العلم، وكذلك عدم منعهن من زيارة أهلها وصلة رحِمها، فلا يكون سببًا في قطع الأرحام بينها وبين أهلها.
وكذلك يأذن لها بالخروج إلى السوق، إذا لم يوجد من يُحضر لها أغراضها. أو حاجتها.
- وإذا أذِن لها الزوج بالخروج، فالأفضل أن يكون معها، فإن لم يخرج معها، فعليه أن يأمرها بالحجاب عند خروجها، وينهاها عن التبرُّج والسفور، ووضْع العطور، ويحذِّرها من الخضوع بالقول مع الرجال والاختلاط بهم، وينهاها عن مصافحة الرجال، كما يحذِّرها من ورود مواطن السوء والشبهات، وزيارة الفاسقات المشبوهات، كما يُحذرها من سماع الأغاني والموسيقا، ومشاهدة التلفاز.
27- أن يأمرها بإقامة الدين:
المبدأ الذي لا بد أن تقوم عليه الحياة الزوجية، هو طاعة الله - تعالى- والإعانة على ذلك من قِبَل الزوجين؛ حتى يقام الدين بينهما، والأسرة هي اللبنة الأولى لإقامة الأمة، فإذا أُقيم الدين في الأسرة أقيم في الأمة بأجمعها؛ قال - تعالى -: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].
فإذا كان من حق الرجل على زوجته أن يسألها عن طعامه وشرابه، فإن من حقها عليه أن يسألها عن إقامة الدين: من صلاة، وزكاة، وصوم، وعبادات مفروضة عليها؛ ولذلك ينبغي للرجل - كما يسأل زوجته: هل يوجد طعام؟ هل يوجد شراب؟ - أن يسألها هل: صلَّيتِ العشاء؟ هل صمتِ اليوم؟ هل قلتِ الأذكار؟
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوتَر يقول: ((قومي فأوتري يا عائشة))؛ البخاري.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول كما عند البخاري ومسلم: ((سبحان الله! ماذا أُنزِل الليلة من الفتن، وماذا فُتِح من الخزائن، أيقظوا صواحبَ الحُجَر
[10]، فرُب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)).
ولقد ترحَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - على مَن كان يوقظ أهله للصلاة؛ فقد أخرج أبو داود والإمام أحمد - بسند صحيح - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رحِم الله رجلاً قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته فصلَّت، فإن أبت نضَح في وجهها الماء، ورحِم الله امرأةً قامت من الليل فصلَّت، وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى، نضَحت في وجهه الماء))؛ حسنه الألباني في "المشكاة" (1230).
نجاتك مرهونة بنجاة أهلك:
فإن الشاب قبل الزواج مسؤول عن نجاة رقبته من النار، فإذا ما تزوَّج فهو مسؤول عن نجاة رقبتين من النار، وإذا أنجب، فإنه مسؤول عن نجاة ثلاث رقاب من النار.....، وهكذا فإن الرجل قد ينجح فيما بينه وبين الله: من إقامة الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغير ذلك من العبادات المفروضة عليه، ومع ذلك قد يدخل النار بسبب زوجته وأولاده؛ لأنه خالف قوله - تعالى -: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132].
فعلى الرجل أن يعمل جاهدًا على تعليم زوجته، وحثِّها على إقامة الدين: من أداء الصلاة، وعدم التبرج والسفور، ونهْيها عن المعاصي، فإن أصرَّت المرأة على عدم الاستجابة، وخالفت أمر الله وأمر زوجها - فطلاقها أولى من الإمساك بها.
سُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كما في "مجموع الفتاوى": "رجل له زوجة لا تصلي، هل يجب عليه أن يأمرها بالصلاة؟ وإذا لم تفعل هل يجب عليه أن يفارقها أم لا؟
فأجاب: نعم، يجب عليه أن يأمرها بالصلاة؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132].
وقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [التحريم: 6].
ولقول علي في هذه الآية: "علِّموهم وأدبوهم"، فإن أصرَّت على ترك الصلاة، فعليه أن يُطلقها، وذلك واجب في الصحيح، وتارك الصلاة مستحق للعقوبة حتى يصلي باتفاق المسلمين.
28- أن يسمر مع زوجته يحدِّثها ويستمع إلى حديثها:
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس مستمعًا إلى أمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وهي تقصُّ عليه حديث النسوة اللاتي جلسْنَ وتعاقَدن وتعاهَدن على ألا يَكْتُمن من خبر أزواجهنَّ شيئًا، وهذا الحديث معروفٌ بحديث "أم زَرْع"، وهو حديث طويل أخرجه البخاري "باب السَّمَر مع الأهل"، من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: "جلس إحدى عشرة امرأةً، فتعاهَدن وتعاقدن ألاَّ يَكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا.
قالت الثانية: زوجي لا أبثُّ خبرَه
[17]، إني أخاف أن لا أَذَرَه
[18]، إن أذكره، أَذْكُرْ عُجَره
[19]، وبُجَره
[20].
قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق
[21]، إن أنطقْ، أُطَلَّقْ، وإن أسكت أُعَلَّق
[22].
قالت الرابعة: زوجي كلَيْلِ تِهَامةَ
[23]، لا حَرٌّ ولا قَرٌّ، ولامخافةَ ولا سآمةَََََ
[24].
قالت الخامسة: زوجي إن دخل، فَهِد
[25]، وإن خرج أَسِد
[26]، ولا يسأل عما عَهِد
[27].
قالت السادسة: زوجي إن أكل، لَفَّ
[28]، وإن شَرِب، اشتَفَّ
[29]، وإن اضطَجَع، التَفَّ
[30]، ولا يُولِج الكفَّ، ليَعْلَم البثَّ
[31].
قالت السابعة: زوجي غَيَايَاء
[32] - أو عَيَايَاء
[33] - طَبَاقَاء
[34]، كلُّ داءٍ له داءٌ، شَجَّكِ
[35] أوفَلَّكِ
[36]، أو جَمَع كلاًّ لكِ.
قالت الثامنة: زوجي المسُّ مسُّ أَرْنَب
[37]، والرِّيحُ رِيْحُ زَرْنَبٍ
[38].
قالت التاسعة: زوجي رفيعُ العماد
[39]، طويلُ النِّجاد
[40]، عظيمُ الرَّماد
[41]، قريبُ البيت من النادِ
[42].
قالت العاشرة: زوجي مالك
[43]، وما مالكٌ؟ مالكٌ خيرٌ من ذلك
[44]، له إبلٌ كثيراتُ المبارِك، قليلاتُ المسارِح
[45]، وإذا سَمِعنَ صوت المِزْهَر
[46] أَيْقَنَّ أنهنَّ هَوَالِك.
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زَرْع، فما أبو زَرْع؟ أَنَاسَ
[47] من حُلِيٍّ أُذُنَيَّ، وملأ من شَحْمٍ عَضُدَي
[48]، وبَجَّحنِي فبَجَحت
[49]إليَّ نفسي، وجَدنِي في أهل غُنَيمةٍ بشقٍّ
[50]، فجَعلنِي في أهل صَهِيلٍ
[51]وأَطِيطٍ
[52] ودَائِسٍ
[53] ومُنَقٍّ
[54]، فعنده أقولُ فلا أُقبَّح
[55] وأَرقُد فأتصبَّح
[56]، وأشرب فأتقنَّح
[57]- فأتقمَّح.
أمُّ أبي زرعٍ، فما أمُّ أبي زرعٍ؟ عُكُومُها
[58] رَدَاحٌ
[59]، وبيتُها فَساحٌ.
ابنُ أبي زرعٍ، فما ابنُ أبي زرعٍ؟ مضجعُه كمَسَلِّ شَطْبَةٍ
[60]، ويشبعُه ذراعُ الجَفْرَة
[61].
بنت أبي زرعٍ، فما بنتُ أبي زرعٍ؟ طوعُ أبيها، وطوعُ أمِّها، وملءُ كسائها
[62]، وغيظُ جارتِها
[63].
جارية أب يزرعٍ، فما جارية أبي زرعٍ؟ لا تبثُّ
[64] حديثَنا تبثيثًا، ولا تُنَقِّثُ
[65]ميراثَنا
[66] تَنْقِيثًا، ولا تملأُ بيتنا تَعْشِيشًا
[67].
قالت: خرج أبو زرعٍ والأَوْطَاب تُمْخَضُ
[68]، فلقي امرأةً معها ولدانِلها كالفَهْدَينِ
[69] يلعبانِ من تحت خَصْرِها برُمَّانتينِ
[70]؛ فطلَّقني ونَكَحها، فنكَحت بعده رجلاً سَريًّا
[71]، رَكِب شَرِيًّا
[72]، وأخذ خَطِّيًّا
[73] وأراح
[74]عليَّ نعمًا ثَرِيًّا
[75]، وأعطاني من كل رائحةٍ
[76] زوجًا، وقال: كُلي أمَّ زرعٍ ومِيرِي
[77] أهلَك.
قالت: فلو جَمَعتُ كل شىءٍ أعطانيه ما بلغ أصغرَ آنيةِ أبي زرعٍ
[78].
قالت عائشة - رضي الله عنها -: فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كنتُ لك كأبي زرعٍ لأمِّ زرعٍ)).
• وفي رواية النسائي: ((ولكنني لا أُطلِّقك)).
• التعليق على الحديث، وذكر الفوائد المتعلقة به:
قال الإمام أبو سليمان الخطابي في الفوائد المستنبطة من حديث أم زرع:
• فيه من العلم: حسن العشرة مع الأهل.
• واستحباب محادثتهم بما لا إثم فيه.
• وفيه: أن بعضهم قد ذكَرت عيوب أزواجهم ولم يكن ذلك غيبةً؛ لأنهم لم يُعرفوا بأعيانهم وأسمائهم.
• وفيه: دلالة على جواز ذِكر أمور الجاهلية واقتصاص أحوالهم.
• وفيه: فضل عائشة - رضي الله عنها - ومحبته لها بملاطفته إياها.
• وفيه: أن السمر بما يَحل جائز، والمعنى حسن العشرة مع الأهل ونحوه.
وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بعض الفوائد؛ منها:
• حسن عشرة المرء أهله: بالتأنيس، والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يُفض ذلك إلى ما يمنع.
• وفيه: المزح أحيانًا وبَسْط النفس به، ومداعبة الرجل أهله، وإعلامه بمحبته لها، ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة تترتَّب على ذلك من تجنِّيها عليه وإعراضها عنه.
• وفيه: منْع الفخر بالمال، وبيان جواز ذكر الفضل بأمور الدين، وإخبار الرجل أهله بصورة حاله معهم، وتذكيرهم بذلك، لا سيما عند وجود ما طُبِعن عليه من كفر الإحسان.
• وفيه: ذكر المرأة إحسان زوجها.
• وفيه إكرام الرجل بعض نسائه بحضور ضرائرها، بما يخصُّها به: من قول أو فعْلٍ، ومحله عند السلامة من الميل المفضي إلى الجَوْر، وقد تقدم - في أبواب الهبة - جواز تخصيص بعض الزوجات بالتحف واللطف، إذا استوفى للأخرى حقَّها.
• وفيه: جواز تحدُّث الرجل مع زوجته في غير نوبتها.
• وفيه: الحديث عن الأمم الخالية، وضرب الأمثال بهم اعتبارًا، وجواز الانبساط بذكر طرف الأخبار ومُستطابات النوادر؛ تنشيطًا للنفوس.
• وفيه: حض النساء على الوفاء لبُعولهنَّ، وقصْر الطرف عليهم، والشكر لجميلهم، ووصْف المرأة زوجها بما تعرفه من حُسن وسوءٍ، وجواز المبالغة في الأوصاف، ومحله إذا لم يَصِر ذلك ديدنًا؛ لأنه يُفضِي إلى خَرْم المُروءة.
• وفيه: تفسير ما يجمله المخبر من الخبر؛ إما بالسؤال عنه، وإما ابتداءً من تلقاء نفسه.
• وفيه: أن ذكر المرء بما فيه من العيب جائز، إذا قُصِد التنفير عن ذلك الفعل، ولا يكون ذلك غيبةً، أشار إلى ذلك الخطابي، وتعقبه أبو عبدالله التميمي - شيخ عياض - بأن الاستدلال بذلك إنما يتم أن لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سمِع المرأة تغتاب زوجها، فأقرَّها، وأما الحكاية عمن ليس بحاضر، فليس كذلك، وإنما هو نظير مَن قال: في الناس شخص يسيء، ولعل هذا هو الذي أراده الخطابي، فلا تعقُّب عليه.
وقال المازري: قال بعضهم: ذكر بعض هؤلاء النسوة أزواجهن بما يكرهون، ولم يكن ذلك غيبًا؛ لكونهم لا يعرفون بأعيانهم وأسمائهم، قال المازري: وإنما يحتاج إلى هذا الاعتذار لو كان مَن تحدث عنده بهذا الحديث سمِع كلامهن في اغتياب أزواجهن، فأقرَّهن على ذلك، فأما - والواقع خلاف ذلك، وهو أن عائشة - رضي الله عنها - حكت قصةً عن نساء مجهولات غائبات - فلا، ولو أن امرأة وصَفت زوجها بما يكرهه، لكان غيبةً محرمة على من يقوله ويسمعه، إلا إن كانت في مقام الشكوى منه عند الحاكم، وهذا في حق المعين، فأما المجهول الذي لا يعرف، فلا حرَج في سماع الكلام فيه؛ لأنه لا يتأذى إلا إذا عرَف أنَّ مَن ذُكِر عنده يعرفه، ثم إن هؤلاء الرجال مجهولون، لا تُعرف أسماؤهم ولا أعيانهم، فضلاً عن أسمائهم، ولم يثبت للنسوة إسلام حتى يجري عليهن الغيبة، فبطَل الاستدلال به لما ذُكِر.
• وفيه: تقوية لمن كرِه نكاح مَن كان له زوج؛ لما ظهر من اعتراف أم زرع بإكرام زوجها الثاني لها بقدر طاقته، ومع ذلك فحقَّرته وصغَّرته بالنسبة إلى الزوج الأول.