عــلــم أسبـاب ورود الحديث الشريف
تأليف الدكتور/ بدر عبد الحميد هميسه
غـفـر الله لنا وله ولـوالديه وللمسلمين
--------------------------------------------
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" (آل عمران، 102).
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً، ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً" (النساء، آية:1).
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً" (الأحزاب، آية: 70،71).
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أشرفُ الخلائقِ خُلْقـاً وخَلْقاً ، ورضي الله عن أصحابه حازوا كل الفضائل سبقا ، وعلى من سار على نهجهم إلى يوم الدين .
وبعد...؛
فإن حسن الفهم لما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة، يقتضي تحصيل مجموعة من الأسس التي لا غنى عنها لقارئ السنة، تحقيقًا لهذا الفهم الصحيح.
وإهمال أساس من هذه الأسس يحدث اضطرابًا في الفهم واختلافًا بين النصوص؛ ليس اختلافًا ذاتياً في النصوص، وإنما اختلاف نشأ من هذا التقصير في التحصيل لدى الناظرين في السنة.
فلا يتوقع الاختلاف والتضاد بين النصوص، عندما يكون المصدر واحدًا، فإذا أضفنا إلى وحدة المصدر عصمته لأنه من وحي الله، فمحال أن يوجد بينها اختلاف (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا) (النساء: 82).
فالاختلاف في نصوص الوحي، ليس ذاتيًا فيها، وإنما هو من طرف واحد -إن حدث- وهو طرف الناظرين فيها بغير كفاءة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من وحي الله وتعليمه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وبيانه له، وتشهد بذلك آيات القرآن الكريم (وأنزلنا إليك الذكر لتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم) (النحل: 44). وقال تعالى: (ثُمّ إنّ علينا بيانه) (القيامة: 19).
فالبيان للقرآن الكريم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا البيان تكفل به تعليمًا لرسوله (وعلّمك ما لم تكن تعلم ) (النساء:113). وحفظًا له (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9).
ولذلك فإن وجود الاختلاف والتضاد، لا يتجاوز عقول الناظرين في السنة. والتخلص منه، يكون بالوقوف على هذه الأسس التي نذكرها في هذا المبحث على سبيل الإجمال، مصحوبة بنماذج من تصحيح الفهم تشهد لسلف هذه الأمة، بالعناية بهذه المسألة لنفرد بعد ذلك بشيء يسير من التفصيل أساسًا يحتاج إلى تحليل ما كتب فيه -وهو يسير- وتأسيس منهج نسير عليه، طلبًا للمزيد من هذه النماذج، التي عُني فيها بأسباب ورود الحديث.
فمن هذه الأسس:
وذلك لأن النصوص الواردة ليست سواء في درجة ثبوتها ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كفانا علماؤنا منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم هذا الجانب المعين على التوثيق في جانبي الرواية؛ أي في جهة السند، وفي جهة المتن.
وقدمت الدراسات التي تشهد لعلماء الحديث بالسبق والريادة والدقة العلمية في توثيق الروايات، وتمييز بعضها من بعض، بالفوارق اليسيرة التي لا يتنبه إليها إلا من عُني بتحقيق اليقين، فيما ينسب إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه الدين.
فنُظِر إلى الإسناد على أنه دين، فلينظر المرء عمن يأخذ دينه، وقدمت المصنفات في أسماء الرواة وكناهم وصفاتهم، بل نظر في تطور أحوالهم خلال سنوات أعمارهم، وفي شيوخهم وتلاميذهم، ووضع لكل راو لقبه المناسب، وإن اختلفت الأنظار إليهم عرف ذلك، وكيف يكون التعامل مع الموثِّقين والمجرِّحين، بل اشتهر من عرف بالتشدد في الحرج والتعديل، ومن عرف بالاعتدال، أو التساهل، ودوّن كل هذا ، ويسر تصنيفه، للرجوع إليه عند الحكم على الحديث.
كما فصّل القول في متن الحديث، وعلامات قبوله، وعلامات ردّه، وكل ما يتعلق به؛ لأنه الغاية من السند، وعرف لكل حديث بسنده ومتنه درجته المطابقة لحاله، بل عرف للدرجة الواحدة مستويات متفاوتة، فالحديث الصحيح درجات، وكذلك الحسن، بل الضعيف له مستويات.
فإذا لم يحصل الناظر في الحديث هذه المعارف، كان نظره قاصرًا، ووقوعه في الخطأ محققا، وظهور الاختلاف والتناقض بين النصوص التي ينظر فيها مؤكدًا.
وهذا ما جعل بعض المغرضين الذين حرموا المعرفة بهذه المقاييس في التصحيح والتضعيف، يستشهدون على أفكار سقيمة بروايات ضعيفة أو موضوعة، وفي مصادر ليست معتبرة عند علماء الحديث، ليضربوا بها نصوصًا صحيحة -أو على الأقل- أرجح منها.
ولذلك فإن بداية التعامل مع الروايات تكون بتوثيقها، وإعمال المعايير النقدية لأهل الحديث فيها، ومعرفة كل رواية وما قيل في الحكم عليها.
يعد موضوع (أسباب ورود الحديث) من الموضوعات المهمة في علوم الحديث الشريف المتعلقة بالمتن، وقد اعتنى المحدثون والفقهاء بهذا النوع من أنواع علوم الحديث، وحرصوا على إبرازه وضبطه لما له من أثر في فهم النص، وضبط الاستنباط منه.
فمعرفة أسباب ورود الحديث أمر في غاية الأهمية، وأُلِّفَ فيه مؤلفات، كما أُلِّفَ في أسباب النزول
وعلــم أســباب الحــديث وكــذا
تاريخـــه مـــن الــمـهـــم فخـذا
وسوف نعرض لهذا الموضوع من خلال هذه المباحث الخمسة:
المبحث الأول: تعريف (أسباب ورود الحديث).
المبحث الثاني: الفرق بين سبب النزول وسبب الورود.
المبحث الثالث:فوائد معرفة أسباب ورود الحديث.
المبحث الرابع: أقسام سبب الورود.
المبحث الخامس: علم أسباب ورود الحديث تطبيقاً.
هذا؛ فإن كنت قد أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وإن كانت الأخرى فحسبي أنى قد أخلصتُ لله نيتي وعزيمتى، وبذلت أقصى جهدي وهمتي.
واللهَ أسألُ أن يغفر زلاتي، ويستر عوراتي، ويلهمني الرشد والصواب، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ، إنه ولىُ ذلك والقادر عليه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين .
المبحث الأول
تعريف (أسباب ورود الحديث)
هو ما ذكر الحديث بشأنه وقت وقوعه.
فقولنا (بشأنه) أي: لأجله وبسببه، وقد يكون هذا الأمر حادثة وقعت أو سؤالاً طرح، أو نحو ذلك.
وقولنا (وقت وقوعه) خرج به ما ذكر في بعض الأحاديث من الأخبار عما وقع في الزمن الماضي، كقصص الأنبياء ونحوها. السبب لغة: عرف أهل اللغة السبب – بفتح السين والموحدة – بأنه الحبل, وذلك في لغة هذيل, وهو كل شئ يتوصل به إلى غيره.
ثم أطلقه أهل العرف العام على:
كل شيئ يتوصل به إلى مطلوب, وعرفه علماء الشريعة بأنه عبارة عما يكون طريقاً للوصول إلى الحكم غير مؤثر فيه .
أما الورود والموارد:
بمعنى المناهل, أو الماء الذي يورد .
سبب الورود اصطلاحا:
لم يؤثر عن المحدثين له تعريف محدد, ولعلهم أغفلوه اعتمادا منهم على وضوحه, أو على مقاربته على ما هو مذكور عند علماء الشريعة.
ولكن عرفه بعض المعاصرين:
فعرفه الدكتور أبو شهبة فقال: هو علم يبحث فيه عن الأسباب الداعية إلى ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحديث أولا, وهذا السبب قد يكون سؤالا, وقد تكون حادثة, وقد تكون قصة, فيقول النبي- صلى الله عليه وسلم- الحديث بسببه أو بسببها .
وعرفه الدكتور يحى إسماعيل فقال: هو ما يكون طريقا لتحديد المراد من الحديث, من عموم أو خصوص, أو إطلاق أو تقييد, أو نسخ أو غير ذلك. أو هو ما ورد الحديث أيام وقوعه .
وأول من نوه به هو الحافظ البلقيني في كتابه "محاسن الاصطلاح وتضمين كلام ابن الصلاح" ثم الإمام ابن حجر في "النخبة وشرحها" فقد نوه به أيضا, وصنف فيه أبو جعفر العكبري, وأبوحامد بن كوتاه الجوباري, والإمام السيوطي في التدريب موجزا.
قال ابن الملقن في شرح العمدة" أن بعض المتأخرين من أهل الحديث شرع في تصنيف أسباب الحديث كذا عزاه الشيخ عزا لدين لبعض المتأخرين, وسمعت ممن يذكر أن عبد الغني بن سعيد الحافظ صنف فيه تصنيفا قدر العمدة" .ولكن يثبت لنا بالنظر في الآثار الواردة من لدن عصر الصحابة حتى يومنا هذا, أن هذا العلم قديم.
ويغلب على الظن أنه وضعت بذوره في عصر الصحابة والتابعين، ويوضح ذلك القصة التالية التي وردت في البرهان في علوم القرآن, في قوله تعالى" ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا... ".
قال: حكى عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معد يكرب: أنهما كانا يقولان الخمر مباحة, ويحتجان بهذه الآية, وخفى عليهما سبب نزولها, فانه يمنع من ذلك وهو ما قاله الحسن وغيره: "لما نزل تحريم الخمر قالوا: كيف بإخواننا الذين ماتوا وهي في بطونهم, وقد أخبر الله تعالى أنها رجس, فأنزل الله تعالى"ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات…" من هذا يتبين أن هذا الموضوع من علوم الحديث قد لقى عناية مبكرة من العلماء.
وهو بهذا يتشابه إلى حد كبير مع (أسباب النزول) في علوم القرآن الكريم، قال السيوطي (911هـ): "إن من أنواع علوم الحديث: معرفة أسبابه، كأسباب نزول القرآن" (1).
وقال الحسيني (1120هـ): "اعلم أن أسباب ورود الحديث كأسباب نزول القرآن" (2).
واعتناء العلماء بأسباب نزول القرآن، وأسباب ورود الحديث يجلي عناية العلماء من السلف والخلف بهذين المصدرين الأصليين: الكتاب والسنة.
المبحث الثاني: أقسام الحديث من حيث سبب الورود
قال الحسيني: "الحديث الشريف في الورود على قسمين: ماله سبب قيل لأجله، وما لا سبب له" (3).
ومن هنا يتبين أنه يمكن تقسيم الأحاديث من حيث سبب الورود إلى قسمين:
1- أحاديث ابتدائية.
وهو ما ذكر دون ورود سبب يقتضيه، وأمثلة ذلك كثيرة، ومنها ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت"(4).
2- أحاديث سببية.
وهو ما تقدمه سبب اقتضى وروده.
سبب الورود وسبب ذكر:
قال الشيخ ابن حمزة الحسيني: وأفاد الحافظ ناصر الدين الدمشقي في "التعليقة اللطيفة لحديث البضعة الشريفة" أنه يأتي سبب الحديث تارة في عصر النبوة, وتارة بعدها, وتارة يأتي بالأمرين, كحديث البضعة.
أما سببه في عصر النبوة فخطبة علي –كرم الله وجهه- ابنة أبي جهل على فاطمة – رضي الله عنها – فقال عليه السلام " إنما فاطمة بضعة مني… " أما سبببه بعد عصر النبوة فما رواه المسور تسلية وتعظية لأهل البيت- رضي الله عنهم – بهذا الحديث وفيه التسلية عن هذا المصاب .
ولكن الدكتور أبو شهبة يرد هذا ويقول: أن ما قاله الصحابي يسمى سبب ذكر, ولا يسمى سبب ورود فيقول" والحق أن سبب الورود إنما يراد به السبب الذي بسببه قال النبي – صلى الله عليه وسلم – الحديث , أما ذكر الصحابي للحديث فيما بعد ليستدل به في مناسبة من المناسبات فانه لا يسمى سب ورود وإنما يسمى " سبب ذكر" فيقول مثلا: والسبب في ذكر الصحابي الحديث هو كذا..., فذكر الصحابي المسور بن مخرمة على زين العابدين وآل البيت لا يعتبر سبب ورود أبدا, وإنما يعتبر سببا لذكره, وفرق بين الأمرين فلينتبه إلى هذا التحقيق أهل الحديث وطلبته .
المبحث الثاني
الفرق بين سبب النزول وسبب الورود
لمعرفة العلاقة بين أسباب نزول القرآن وأسباب ورود الحديث لا بد من تعريفهما أولا.
وقد سبق التعريف بأسباب الورود في الأحاديث فكان لزامًا تعريف أسباب النزول في القرآن؛ لبيان تلك العلاقة.
تعريف سبب النزول في القرآن:
هو ذكر كل ما يتصل في سبب نزول الآية أو الآيات مخبرة عنه أو مبينة لحكمه في زمان وقوعه، ويكون إما حادثة وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم في زمانه أو سؤال ورد إليه صلى الله عليه وسلم، وتكون الآية مبينة لتلك الحادثة أو رادة على السؤال الموجه أو نحو ذلك.
والمراد بزمان وقوعه: الظروف التي ينزل القرآن يتحدث فيها عن السبب، سواء كان ذلك النزول عقبه مباشرة أو تراخى زمانه لحكمة يعلمها الشارع؛ احترازًا عن الآيات التي نزلت ابتداء من غير سبب تتحدث عن وقائع ماضية أو مستقبلة كقصص الأنبياء ويوم القيامة والساعة وغير ذلك.
فوائد معرفة أسباب النزول القرآن:
عن إبراهيم التيمى قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى ابن عباس فقال: كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟! فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه وعَلِمناه فيما نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يعرفون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا (4).
قال السيوطي في مقدمة كتابه «لباب النقول»:«لمعرفة أسباب النزول فوائد، وأخطأ من قال: لا فائدة له؛ لجريانه مجرى التاريخ، ومن فوائده الوقوف على المعنى، أو إزالة الإشكال» (5).
أقسام الآيات من حيث أسباب النزول:
1- قسم نزل ابتداء من غير ارتباط بسبب وهو كثير ظاهر.
2- قسم نزل مرتبطًا بسبب من الأسباب.
ذكر بعض الأمثلة على أسباب نزول القرآن:
1- عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت في غزاةٍ فسمعت عبد الله بن أبيٍّ يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُّوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فذكرت ذلك لعمِّي أو لعمر فذكره للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدعاني فحدَّثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبيٍّ وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذَّبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدَّقه، فأصابني همٌّ لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذَّبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك، فأنزل الله تعالى: ?إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ?، فبعث إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقرأ فقال: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ»(6).
2- عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوفٍ طعامًا فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منَّا وحضرت الصَّلاة فقدَّموني فقرأت: قل يا أيُّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، قال فأنزل الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" (7).
- وهذا حديث صحيح جامع لعدد من أسباب النزول:
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «نزلت فيّ آياتٌ من القرآن:
قال: حلفت أمُّ سعدٍ ألا تكلِّمه أبدًا حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب قالت: زَعَمْتَ أن الله وصَّاك بوالديك وأنا أمُّك وأنا آمرك بهذا، قال: مَكَثَتْ ثلاثًا حتى غُشي عليها من الجهد، فقام ابنٌ لها يُقال له عمارة فسقاها، فجعلت تدعو على سعدٍ، فأنزل الله تعالى في القرآن هذه الآية: "وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي" وفيها "وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا".
قال: وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمةً عظيمةً فإذا فيها سيفٌ فأخذته فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت: نفِّلني هذا السيف فأنا من قد علمت حاله، فقال: «رُدَّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ»، فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيَه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت: أعطنيه. قال: فشدَّ لي صوته «رُدَّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ». قال: فأنزل الله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ"..
قال: ومرضتُ فأرسلت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأتاني، فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت. قال: فأبى. قلت: فالنصف؟ قال: فأبى. قلت: فالثلث؟ قال: فسكت، فكان بعد الثلث جائزًا.
قال: وأتيت على نفرٍ من الأنصار والمهاجرين فقالوا: تعال نطعمك ونسقك خمرًا -وذلك قبل أن تحرم الخمر قال: فأتيتهم في حشٍّ -والحشُّ البستان- فإذا رأس جزورٍ مشويٌّ عندهم وزقٌّ من خمرٍ، قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت: المهاجرون خيرٌ من الأنصار، قال: فأخذ رجلٌ أحد لحيي الرّأس فضربني به فجرح بأنفي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأنزل الله تعالى فيَّ -يعني نفسه- شأن الخمر: "إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" (. المبحث الثالث
فوائد معرفة أسباب ورود الحديث
العلم بأسباب ورود الحديث الشريف يفيد كثيراً للمشتغل بالحديث والفقه معاً، ومن أبرز الفوائد المتحصلة من هذا النوع:
1- إدراك حكم التشريع، ومعرفة مقاصد الشريعة.
يعد سبب الورود معرفاً بالظرف الذي لأجله ذكر الحديث، وما احتف به من الظروف والملابسات، وهذا يفيد كثيراً في مسألة الاجتهاد وتنزيل الأحكام على الوقائع والنوازل، ويعين في باب القياس وضم النظير إلى نظيره.
2- فهم الحديث على الوجه الصحيح، وسلامة الاستنباط منه.
قال الواحدي عن أسباب النزول: "إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية، وقصد سبيلها دون الوقوف إلى قصتها وبيان نزولها" (4).
وقال ابن دقيق العيد: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن" (4).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب" (4).
والأمر لا يختلف كثيراً في أسباب ورود الحديث عنه في أسباب نزول القرآن، فالفقيه والمجتهد بحاجة ماسة إلى النظر في سبب ورود الحديث، حتى لا يحصل الخطأ في فهم النص وتنزيله على غير محله (4).
ولعلي أضرب على ذلك مثالاً يوضح ذلك:
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصوم في السفر" (4).، وهذا مشكل مع ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صام في السفر؛ لكن هذا الإشكال ينزاح إذا عرف سبب ورود الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه، فقال: "ما هذا؟" فقالوا: صائم، فقال: "ليس من البر الصوم في السفر".
فبمعرفة سبب ورود الحديث فهم الحديث على وجهه، وسلم الاستنباط منه، وأن الصيام في السفر لا يكون من البر إذا بلغ بالمرء من الجهد والمشقة كحال ذلك الرجل.
3- تخصيص العام.
4- تعيين المبهم.
ومن أمثلته ما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" متفق عليه (4).
فقد بين هذا المبهم في سبب ورود الحديث، وذلك في قول أنس: كسرت الربيعُ - وهي عمة أنس بن مالك - ثنية جارية من الأنصار فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: لا والله لا تكسر ثنيتها يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره".
3- إزالة الإشكال عن الرواية .
وإذا كان ابن دقيق العيد والسيوطي قد نبّها -كما مر- إلى هذه العلاقة، بين أسباب الورود وما كتب فيها، وأسباب النزول وما كتب فيها، فإن المتأمل في هذه الكتابات، يجد أن المصنفين في أسباب النزول، هم المشتغلون بالروايات وما يتصل بعلوم الحديث؛ فقد ذكر الإمام الزركشي في كتابه "البرهان في علوم القرآن"، عناية المفسرين في كتبهم بمعرفة أسباب النزول، وأنهم أفردوا فيه تصانيف، منهم "علي بن المديني" شيخ البخاري، ومن أشهرها تصنيف الواحدي.
واتفق الإمام السيوطي مع الإمام الزركشي في وصف كتاب أسباب النزول لأبي الحسن "علي بن أحمد الواحدي النيسابوري" بأنه أحسنها.
كما يقول السيوطي: ثم شيخ الإسلام حافظ العصر، أبو الفضل "ابن حجر".
غير أن الإمام السيوطي -وقد ألف في هذا كتابه لباب النقول في أسباب النزول- يذكر في كتابه "الإتقان"، ما يشعر بسبب تأليفه لهذا الكتاب، على الرغم من شهادته بالحسن لكتاب الواحدي، فيقول: "ومن أشهرها كتاب الواحدي على ما فيه من إعواز، وقد اختصره "الجعبري" فحذف أسانيده، ولم يزد عليه شيئًا، وألف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر كتابًا مات عنه مسودة، فلم نقف عليه كاملاً، وقد ألف فيه كتابًا حافلاً موجزًا محرراً، لم يؤلف مثله في هذا النوع.
وعلى كل حال، فكل من كتب - بعد ذلك - في أسباب النزول، فإن مصادره الأساسية ما ذكر في البرهان، والإتقان، وما جمع من أسباب النزول في الكتب السابقة، ومن أجمع ما كتب من دراسة حديثة في هذا، ما سطره الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه "مناهل العرفان في علوم القرآن".
عند الوقوف أمام المعاني في بعض الآيات، وفي بعض الأحاديث، يقول الواحدي: "لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها، وبيان نزولها".
ويقول ابن دقيق العيد: "بيان سبب النزول، طريق قوي في فهم معاني القرآن". ويقول ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب".
ومن أمثلة ذلك:
أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى: (لا تحْسبنّ الذين يفرحون بما أتوا وّيُحبّون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذابُ أليم) (آل عمران: 188).. فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن علقمة بن وقاص: أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل، معذبًا، لنعذّبن أجمعون! فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه؟! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبيننه للناس ولا تكتُمونه فنبَذُوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً فبئس ما يشترون * لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويُحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازةٍ من العذاب ولهم عذاب أليم) (آل عمران: 187 - 188).
وأما الأمثلة التي تتعلق بأسباب الورود، فقد ذكر أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي، مجموعة منها في كتابة "كيف نتعامل مع السنة النبوية، معالم وضوابط"، قدم لها بقوله: "لا بد لفهم الحديث فهمًا سليمًا دقيقًا، من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، وجاء بيانًا لها، وعلاجًا لظروفها، حتى يتحدد المرادُ من الحديث بدقة، ولا يتعرض لشطحات الظنون، أو الجري وراء ظاهر غير مقصود.
ومما لا يخفى أن علماءنا قد ذكروا أن مما يُعين على حسن فهم القرآن معرفة أسباب نزوله، حتى لا يقع فيما وقع فيه بعضُ الغلاة من الخوارج وغيرهم، ممن أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين، وطبّقوها على المسلمين، ولهذا كان ابنُ عمر يراهم شرار الخلق، بما حرفوا كتاب الله عما أنزل فيه. فإذا كانت أسباب نزول القرآن مطلوبة لمن يفهمه أو يفسره، كانت أسبابُ ورود الحديث أشدّ طلبًا.
ذلك أن القرآن بطبيعته عامّ وخالدُ، وليس من شأنه أن يعرض للجزئيات، والتفصيلات، والآنيات، إلا لتُؤخذ منها المبادئ والعبر.
أما السنة فهي تعالج كثيرًا من المشكلات الموضعية والجزئية والآنية، وفيها من الخصوص والتفاصيل ما ليس في القرآن.
فلا بد من التفرقة بين ما هو خاص وما هو عام، وما هو مؤقت وما هو خالد، وما هو جزئيُّ، وما هو كليُّ، فلكلّ منها حكمُه، والنظرُ إلى السياق والملابسات والأسباب، تساعد على سداد الفهم، واستقامته لمن وفقه الله".
والأمثلة التي قُدمت لبيان أهمية أسباب الورود، وأثرها في الفهم الصحيح، تجمع بين ذكر الحديث، والفهم الخطأ له، والفهم الصواب الذي يتحقق بمعرفة سبب ورود هذا الحديث.
فمثلاً يذكر الحديث الذي أخرجه مسلم، في كتاب المناقب، من صحيحه، عن عائشة رضي الله عنهما، وكذلك عن أنس رضي الله عنه: "أنتم أعلم بأمور دنياكم".
وقد اتخذه "دعاة العلمانية" تكأةً للفصل بين الدنيا والدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكَلَ إلى الناس أمر دنياهم، فهم أعلم بها.
وهذا خطأ في الفهم، يُردّه هذا الموقف التعليمي التربوي، الذي يُفهم من قصة هذا الحديث، وسبب وروده، وهي قصة تأبير النخل.
ومع ذكره أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي في ذلك؛ فإن النتيجة من قصة التأبير، تخاطب المسلمين في الأمور المتغيرة، والتي تخضع للخبرة، والتجربة، والتحسين المستمر، بما يفتح الله سبحانه به على عباده في كل زمان، مع الاسترشاد بما جعل الله سبحانه لعباده من الأصول العامة، التي ترشد هذه المتغيرات، فشأن المسلم في هذا، أن يأخذ بأحدث ما وصلت إليه الخبرة، والتجربة، والنتيجة العلمية، ولا يقول: كان الشأن في ذلك على عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو قال فيها بكذا، ما لم يكن هذا القول وحيًا مُلزمًا، وهذا -عادة- يكون في الجوانب الثابتة من أمور العقيدة، والعبادة، والأخلاق، والأخبار، وأصول المعاملات، التي ترشّد ما يكون فيها من متغيرات.
يتبع إن شاء الله...