الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتغفر الذنوب وتكفر السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والخفيات, ورب البريات وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , الذي بعثه ربه إلى العباد بشيراً ونذيراً, وقدوةً وإماماً, فجلا الله بدعوته الظلام, وأنار الدرب للأنام , اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحابته الكرام , وسلم تسليماً مزيداً ما توالت الأيام.
أما بعد : فاتقوا الله .
عباد الله: إن المرء لابد له في حياته من قدوات يقتدي بها ورموزٍ يأتسي بها ونماذجَ ينظر في فعالها قبل أقوالها,ولو تأملت أفعال الناس لوجدتهم في جل تصرفاتهم يقتدون بغيرهم إن في أفعال الشر أو الخير, ولأجل ذلك أمر الله نبيه بأن يقتدي بالأنبياء قبله ,وأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم أصحابه بالاقتداء بمن بعده فقال (اقتدوا بالذين من بعدي ..) وأمر الناس بأن يكون لهم في الخير قدواتٍ ينظرون هديهم ودلّهم ,وأعظم القدوات أثراً وأبلغها وقعها من صلحت أفعالهم وأقوالهم ,وهم العلماء العالمون ,والمبلغون الذين يطبقون مايقولون,فليس الشأن أن يتكلم العالم أو الأب أو المعلم, ثم لربما وجدته تخالف فعاله أقواله ,فمثل هؤلاء يقل أثر حديثهم وربما تلاشى وقع كلماتهم.
قال ابن الجوزي متحدثاً عن هذه القضية ومبرزاً أثر المعلم القدوة: لقيت مشايخ ، أحوالهم مختلفة في مقادير في العلم وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه ، وإن كان غيره أعلم منه , ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون و يعرفون ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح و تعديل ، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة ، و يسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه وإن وقع خطأ ولقيت عبد الوهاب الأنماطي ، فكان على قانون السلف لم يسمع في مجلسه غيبة ، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث ، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقاق بكى و اتصل بكاؤه.
فكان ـ و أنا صغير السن حينئذ ـ يعمل بكاؤه في قلبي ،و يبني فيّ قواعد .
و لقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي ، فكان كثير الصمت ، شديد التحري فيما يقول ، متقناً محققاً . وربما سُئل المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه ، فيتوقف فيها حتى يتيقن .
وكان كثير الصوم و الصمت . فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما .
ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول ا.هـ.
وحديثنا اليوم أيها الكرام, هو عن علم من أعلام الأمة, ورمز من رموز العلماء, سيرته عطرة, وأخباره نظره, هو النجم إذا عُد العلماء, والمقدم في الفقهاء, إمام دار الهجرة مالك بن أنس, أحد الأئمة الأربعة.
ويحار المرء وهو يتحدث عن سير أولئك الرهط ماذا يجلي منها وماذا يذر, وليس بنا اليوم سردُ حياته, ولا الوقوف عند كل ما نقل من أخباره, فذاك مما يضيق عنه المقام, ولكنها تأملات في مواقف إمام من الأعلام, وقدوة من القدوات في فعاله ومقاله .
لقد نشأ مالكٌ محبًا للعلم مغترفًا منه، على الرغم من فقره وقلة حاله. وأمُّ الإمام أحسنت توجيه ابنها لذلك ، أتت له حين هيئته وقالت: "اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه , فمضى الغلام آخذاً بوصية تلك الأم التي صنعت من كلماتها رجلاً, وكم لكلمات الأم من أثر إذا أحسنت النصح وغرست في الأبناء الخير من الصغر, فانطلق متنقلاً بين حلقات العلماء, ولولعه بالعلم وحاجته للمال نقَضَ سقف بيته ليبيعه ويطلب به العلم, حتى حفظ القرآن والحديث في صغره, فتأهل للفتيا وجلس للناس معلماً وله إحدى وعشرون سنة, قال رحمه الله عن نفسه:
"وليس كل من أحبّ أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل، فإن رأوه أهلاً لذلك جلس، وما جلستُ حتى شهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع لذلك.
وانتشر صيته في الآفاق , وطار ذكره بين البلدان, فضرب له الناس أكباد الإبل, وأتوه من كل مكان, وحينما رأوه رأوا إمام أفعال, وليس إمام أقوال, وكم تحتاج الأمة إلى الذين يربون بأفعالهم كما صنع مالك رحمه الله.
قال عنه ابن المبارك: ما رأيت رجلاً ارتفع مثل ما ارتفع مالك, لم يكن كثير صوم ولا صلاة, إلا أن تكون سريرة, فعلق الذهبي على هذه الكلمة بقوله: ماكان عليه الإمام من العلم ونشره أفضل من نوافل الصلاة والصيام لمن أراد به الله .
ولم يكن أولئك الناس يتعلمون للشهرة والتصدر, فقد قال عن نفسه:ما تعلمت العلم إلا لنفسي, وما تعلمت ليحتاج الناس إلي, فكم يجمل بطالب العم أن يحسن نيته في تعلمه لئلا يكون مجرد وعاءٍ يحمل للناس العلم ولا ينتفع به.
رأى الناس منه تعظيمه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى قال عنه القاضي عياض: لم يركب في المدينة دابة ويقول أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر , وقيل له لِم لم تأخذ عن ابن دينارٍ الحديث, فقال أتيته فوجدته يأخذون عنه الحديث قياماً فأجللت حديث رسول الله أن آخذه قائماً .
قال عنه معاصروه: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم; يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمدَ بنَ المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله إلا على طهارة .
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم; فيُنظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه؛ هيبة لرسول الله .
ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم؛ بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري وكان لمن أهنأ الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم ;فكأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم; بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس ويتركوه)( ) فهل رأيتم كيف يُجلّ هؤلاء الأكابرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, فأين من هذا من يعارض سنته, ومن لايقيم لقول رسول الله قدراً.
ومع سعة علم الإمام , إلا أنه لم يكن متعجلاً في الإفتاء, بل كان إذا سئل عن المسألة قال للسائل: "انصرف حتى أنظر فيها"، فينصرف ويتردد فيها، قال بعض تلاميذه: فقلنا له في ذلك، فبكى وقال: "إني أخاف أن يكون لي من السائل يوم وأي يوم.
وسأله رجل من أهل المغرب عن مسألة كلفه بها أهل المغرب أن يسأل الإمام مالكًا، فكان جواب الإمام مالك: "لا أدري، ما ابتلينا بهذه المسألة في بلدنا، وما سمعنا أحدًا من أشياخنا تكلم فيها، ولكن تعود"، وعاد الرجل من الغد فقال له الإمام مالك: "سألتني وما أدري ما هي"، فقال الرجل: يا أبا عبد الله، تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك فماذا أقول لهم إذا رجعت إليهم؟ فقال الإمام مالك: قل لهم إن مالكاً يقول"لا أحسن.
وسأله أحدهم عن مسألة وطلب وقتًا للنظر فيها، فقال السائل هذه مسألة خفيفة، فرد الإمام مالك: "ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً" [المزمل:5]؟!".
وقال بعضهم: لكأنما مالك ـ والله ـ إذا سُئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار.
هكذا كان يصنع مالك وهو إمام دار الهجرة, وصنع مثل صنيعه الأئمة كأحمد والشافعي, فما بال كثير من الناس اليوم قد غاب من قواميسهم كلمة "لاأدري".
وإذا كان السلف يقولون إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله, فما الشأن حين يكون الذين يتسارعون إلى الفتيا عوامٌ, وهم بالنسبة للعلم جهال, وتعجب حين ترى التسابق إلى الإفتاء حين يسأل سائلٌ في مجلس, فهذا يقول أذكر وذاك يقول غالب ظني, وثالث يجزم بالتحليل والتحريم, وما دروا أن من أفتي بغير علمٍ فإنما إثمه على من أفتاه, وإذا كان الناس يذعنون للمهندس والطبيب, ولايتعدون على تخصصهم, فما بال علم الشريعة صار نهباً لكل متطاول, وإذا كان المفتي بشيء إنما هو موقعٌ عن رب العالمين فلينظر المرء قبل أن يقول كلمةً ويفتي فتوىً أين يضع قدمه.
عباد الله:
ولقد كان مالكٌ رحمه الله سداً منيعاً أمام البدع, لأنها إذا وقعت في بلدٍ أغرت الناس بها, فالناس مولوعون بكل غريب, والشيطان يزين لهم ما خالف أمر الدين.
حدّث أبو مصعبٍ صاحب مالك فقال: قدم علينا ابن مهدي يعني المدينة فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا-ينظرون ماذا سيصنع- وكان قد صلى خلف الإمام فلما سلم مالكٌ قال من ها هنا من الحرس فجاءه نفسان فقال لهما: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه فحبس فقيل لمالك إن الذي حُبس هو ابن مهدي فوجه إليه مالك وقال له أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر إليه وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه وقد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم "من احدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"
فبكي ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبداً في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم ولا في غيره , نعم إنما هو ثوبٌ وضع أمام الصف, ولكنه خشي أن يظنه الناس شِرعةً فيقعون في البدعة.
ولمن يستهويهم سماع مناظرات أهل البدع والاطلاع على شبههم عبر الانترنت وغيرها, ولربما تأثروا بذلك, نهدي لهم هذا الموقف من سيرة مالك:
قال معن بن عيسى : انصرف مالك يوما من المسجد وهو متكئ على يدي فلحقه رجل كان يتهم بالإرجاء فقال يا أبا عبد الله اسمع منى شيئا أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأيي. قال : فإن غلبتني؟ قال: اتبعتنى. قال : فإن غلبتك ؟ قال : اتبعتك . قال : فإن جاء رجل فكلمناه فغلبنا؟ فقال : تبعناه . قال أبو عبد الله: بعث الله محمدا بدين واحد وأراك تتنقل.
قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل
معشر الكرام: وإذا حدث المرء عن عبادة مالك حدث عن العجب, قال أحدهم : طفت في الحرم, ومالك يصلي فسجد, فطفت سبعة أسباعٍ وهو ما زال في سجدته, وقالت أخته حين سُئلت عن شغله بالبيت ماهو ؟ قالت المصحف والتلاوة.
ومع هذا لم يكن يغتر بثناء الناس عليه, وكم قطع المديح في الوجوه ظهور أقوام وأثّر في نواياهم , فإذا سلم المرء من ذلك فهو على خير, حدث عنه الزبيري فقال: كنت جالسا بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مالك فجاء رجل فقال : أيكم أبو عبد الله مالك ؟ فقالوا : هذا . فجاء فسلم عليه واعتنقه وقبله بين عينيه وضمه إلى صدره وقال : والله لقد رأيت البارحة رسول صلى الله عليه وسلم جالسا في هذا الموضع فقال : هاتوا مالكا فأتي بك ترعد فرائصك فقال : ليس عليك بأس يا أبا عبد الله وقال : اجلس فجلست فقال : افتح حجرك ففتحت فملأه مسكا منثورا وقال : ضمه إليك وبثه في أمتي فبكى مالك طويلا وقال : الرؤيا تسر ولا تغر.
ولقد كان مالك رحمه الله منشغلاً بالعلم والتعليم, ممضياً وقته بين التحديث والطلاب, ولابد لمن أقبل على هذا أن يقلّ إقباله على بعض أبواب الخير الأخرى, فالعمر لايستوعب, فكتب إليه أحد عُبّاد عصره يحضه على الانفراد والعمل, ويلومه على الانشغال بالعلم عن الانكباب على العمل، فكتب إليه مالك رحمه الله: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، وآخر فتح له في العلم، ونشرُ العلم من أفضل الأعمال، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر.
فما أعظمه من فقه وما أجملها من نظره وحينما تضيق نظرة بعض الناس فيريدون أن تكون جميع الطاقات في درب واحد, وأن من لم يسلك مسلكهم فهو مخالف,فإن ذلك الأمر يورث الخلاف بين أهل الخير, ومادام المرء قد سلك طريقاً يرى فيه الخير, فليس له أن يلزم الآخرين على سلوك مسلكه, وليس من حقه التشنيع عليهم إن كانوا لم يقعوا في محذور , وهذا من أشد ما بليت به الساحة الإسلامية اليوم, فالداعية يريد من الجميع أن يسلكوا مسلكه, ومن هو على ذلك المنهج يشنع على غيره ممن خالفه, وذاك ضيق في الأفق والنظر, فهل يكون رائد أهل الخير السالكين دروب مرضاة رب العالمين على اختلاف مشاربهم" كلانا على خير", هذا هو المأمول.
وأقول ما سمعتم
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده أما بعد:
عباد الله: كشأن أي عالم رباني,وإمام للمسلين, تعرض الإمام مالك للامتحان والابتلاء وهذا حكم غالب لأهل العلم الصادقين المخلصين لتتكامل محاسنهم وتصفو حسناتهم وليكونوا للناس قدوة، فلقد ضُرب أبو حنيفة وسجن ليتولى القضاء فرفض وثبت حتى مات في سجنه، وضُرب الشافعي بسبب وشايةٍ ظالمة ونال أحمدُ بن حنبلٍ القسط الأوفر في محنته خلق القرآن، أما مالك فقد ضربه أبو جعفر المنصور وجلده بالسياط حتى خلع كتفيه حينما أفتى بعدم وقوع طلاق المكره فوشى به بعض الناس للخليفة, وقال إن مالكاً يدعو لنقض بيعتكم, لأن من أجاز للمكره أن يطلق ولا يقع طلاقه يجيز للمكره أن يبايعكم وينقض بعد ذلك, وهكذا يصنع الحساد, وهكذا يؤوّل كلام العلماء حين تتبع زلاتهم, وهكذا تساء الظنون أوقات الفتن,وأصرّ مالك على عدم التراجع عن هذه الفتوى, فجُلد أمام الناس سبعين سوطاً, ولما ثبت على فتواه جعل الله العاقبة له ورفع ذكره في العلمين , وهذه عاقبة الابتلاء.
ولقد كان مالكٌ واعظاً للناس, وحتى للخلفاء, مع إقباله على العلم, فلم يكن منكباً على كتبه بعيداً عن واقع مجتمعه.
كان يدخل على الأمير وحين عاتبه بعضهم وقال كيف تدخل على السلاطين وهم يظلمون؟ فقال رحمه الله: فأين التكلم بالحق-أي إنما أدخل لأكلمهم –وهكذا ينبغي أن يكون العالم .
نقل من ذكر سيرته رسالته للرشيد واعظاً له, وكان مما قال فيها:
اذكر نفسك في غمرات الموت وكربه، وما هو نازل بك منه، وما أنت موقوف عليه بعد الموت من العرض على الله سبحانه، ثم الحساب ثم الخلود بعد الحساب، وأَعِدَّ لله عز وجل ما يسهل به عليك أهوال تلك المشاهد وكربها؛ فإنك لو رأيت أهل سخط الله تعالى وما صاروا إليه من أهوال العذاب وشدة نقمته عليهم وسمعت زفيرهم في النار وشهيقهم مع كُلوح وجوههم وطول غمهم وتقلبهم في دركاتها على وجوههم لا يسمعون ولا يبصرون ويدعون بالويل والثبور، وأعظم من ذلك حسرة وبلية عليهم إعراض الله تعالى عنهم وانقطاع رجائهم وإجابته إياهم بعد طول غمهم ودوام حزنهم بقوله{قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ }المؤمنون108، لم يتعاظم شيء من الدنيا إلا طلبت به النجاة من ذلك وأردت به الأمان من أهواله، ولو قدمت في طلب النجاة من تلك الشدائد جميع ما ملك أهل الدنيا لكان صغيرا حقيرا.
ولو رأيت أهل طاعة الله تعالى وما صاروا إليه من كرم الله عز وجل وشريف منزلتهم عنده مع قربهم منه عز وجل ونضرة وجوههم ونور ألوانهم وسرورهم بالنعيم المقيم والنظر إليه سبحانه والمكانة منه لتَقَلَّلَ في عينك عظيمُ ما طلبت به صغيرَ ما عند الله، ولصَغُر في عينك جسيمُ ما طلبت به صغيَر ذلك من الآخرة.
وبعد معاشر الفضلاء: فتلك شذرات من تلك السيرة, أردت بها أن أعطر مسامعكم بسير أولئك النجوم, وأن أقدم نموذجاً للقدوة الحقة التي ينبغي أن يحذو حذوها شباب اليوم, في زمنٍ قلّ فيه القدوات, وكم نحتاج ونحن نُعد جيل الغد, إلى أن نبرز سير أولئك الأعلام, لتكون مجال قدوة وأسوة, ولترتبط بها القلوب, جمعنا الله بأولئك النجوم, وحشرنا في زمرتهم مع النبيين والصديقين في عليين
اللهم صل وسلم