عندما نلقي نظرة على قائمة الأخلاق والقيم نلحظ ما يسمى "بالتدرج الطرفي" أي التدرج من طرف اليمين إلى اليسار أو العكس, من طرف الغلو والتشدد إلى طرف التساهل والتفريط.
وأضرب لذلك بهذا المثال: "الشجاعة" هي الوسط الفاضل أما "التهور" فهو جنوح نحو التشدد في الشجاعة, "والجبن" هو تطرف نحو التخلي عن الشجاعة.
وهكذا فالناس في أخلاقهم متدرجون من هذا الطرف إلى الآخر, وهذا التدرج دقيق جداً, ولا يجوز أن نقسِّم الناس في خلقٍ ما إلى ثلاثة أقسام؛ فنقول إما متهورون وإما شجعان وإما جبناء. بل المقياس دقيق, فنجد المتهور جداً, والمتهور مع قليل من الشجاعة, والشجاع مع قليل من التهور, ثم الشجاع الحق "الوسطي" ثم الشجاع مع قليل من الجبن ثم..ثم..ثم حتى نصل إلى الجبان جداً. وبسبب غياب هذا المقياس عند كثير من الناس فإن نظرتهم للآخرين غير منضبطة وغير مضطردة.
ويمكن أن نقول أن هذا المقياس يسهل تطبيقه على كثير من الأخلاق والقيم, مثل الكرم وطرفيه السرف والبخل, وقوة الشخصية وطرفيها الكبر وضعف الشخصية وغيرها.
إذا عُلم هذا؛ فكيف نستطيع –رحمك الله- توظيف هذا التوازن وهذا "التدرج الطرفي" في التربية؟ أسأل الله أن يعينني على تبيين هذا في النقاط التالية:
1. على المربي أن يحصر القيم والأخلاق التي تدعم وتقوي الوسط الذي يعمل فيه ويحتاجها المستهدفون بالتربية, وذلك يكون حسب طبيعة الميدان وطبائع المتربين, فساحة الجهاد بحاجة إلى قيم مثل الشجاعة والحكمة والقوة والبأس والتضحية والسرية والإيثار أكثر من حاجة العاملين في الميدان الخيري أو الإعلامي مثلاً.
2. على المربي أن يكون ذا فراسة وقوة ملاحظة عند سبر أحوال المتلقين. فمن لقاءات بسيطة مع أحدهم يحدد ما يحتاجه من قيم وأخلاق, فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما أتاه الرجل يطلب منه الوصية قال له: "لا تغضب" لما رأى عليه من علامات التوتر وسرعة الغضب, وقال للآخر: "لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله" لما رأى من حاجته إلى الذكر والتعلق بالله.
3. بعد معرفة أين يقف هذا المتربي في ميزان "التدرج الخلقي", فهو مثلاً في الكرم متوسط وفي الشجاعة ضعيف وفي صبره قوي جداً وفي العلم مقصر ومهمل؛ فهنا نبدأ بتحديد ما يحتاج من تدعيم وموازنة.
فلو كان الشاب فيه جبن وضعف فمن غير المناسب أن أحدثه عن فضل الهدوء والتروي وعدم الاستعجال لأن ذلك سيزيده جبناً وخنوعاً. ولكن أحدثه عن فضل الشجاعة والقوة في الدين والصدع بالحق, وأروي له قصص الأبطال الغطاريف من جنود الله, الذين زلزلوا عروش الطغيان ومزقوا جنود الشيطان.
وإن تأملت حاله فإذا هو متهور عجول, فإنني أقدم له صوراً من الصبر والحكمة والحلم وقصصاً تحذر من خطورة التهور والتعدي والاستعجال.
4. الخطوة التالية هي الحذر من المبالغة في ترجيح كفة الميزان؛ فينقلب ذلك المتهور العجول إلى جبان خوار. ولكن الحل هو دفعه نحو التوسط وترغيبه فيه, وترهيبه من "التطرف" بكلا جانبيه.
5. أكثر ما رأيت من مشاكل اجتماعية هي نتائج لهذا الاختلال الذي يحصل في أخلاق الناس- طبعاً مع عدم إغفال الأسباب الأخرى لهذه المشاكل.
فالجبان هو سبب من أسباب تسلط المعتدين والظلمة عليه, والمتهورون كذلك سببٌ في كثرة الجبناء, والبخيل يزداد بخلاً عندما يرى آثار الإسراف, والمسرف يتمسك بسرفه عندما يسمع مذمة الناس للبخلاء.
والغلاة المكفِّرون للناس يزدادون تكفيراً عندما يشاهدون تفريط الناس في دينهم, وعندما يرون الزنادقة يتصدرون رؤوس المقالات وشاشات التلفاز. والزوجة الضعيفة الخائفة تزيد ذلك الزوج ظلماً وتعدياً وجوراً. والجماهير المطبلة المصفقة يزيدون "الطاغية" طغياناً وكفراً.
6. يجب مراعاة هذا التوازن في الخطاب الجماعي والدعوة الجماعية, فعند جمهور من البخلاء عليك أن تتحدث عن فضل الكرم والإنفاق في سبيل الله, فإن كان من بينهم كريماً واحداً فرُدَّ له توازنه بالدعوة الفردية كما فعل نبينا صلى الله عليه وسلم في أكثر من موطن.
7. ومن السهل أن نرى متطرفاً نحو الغلو والتشدد في أمر ما؛ تضيق به السبل والمخارج بسبب تطرفه؛ فينقلب إلى الطرف الآخر وهذا ما يسمى "بالانتكاسة", فيصير في وقت وجيز متطرفاً نحو التساهل في أمرٍ كان فيه متشدداً. وهذا نتيجة لغياب التوازن في تربية النفس.
8. إذن على المتربي أن لا ينسى نفسه من هذا التوازن, فإن كسلت النفس وفترت؛ أخذها بالعزيمة والنشاط والقوة حتى تستقيم وتصير "نفساً وسطية", فإن كلَّت وتعبت من كثرة الأعمال روّح عنها ومتعها بشيء من المباح حتى حين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.